الرغبة
تقديم:تحيل كلمة رغبة في لسان العرب لابن منظور إلى المعاني التالية:
-الرغبة: الحرص على الشيء والطمع فيه والرغبة (...) السؤال والطمع (...).
-رغب في الشيء رغبا ورغبة ... أراده (...).
-رغب عن الشيء، تركه متعمدا، وزهد فيه، لم يرده (...) يقال رغبت بفلان عن هذا الأمر إذا كرهته له[1] ...
وفي معجم روبير الفرنسي، تشير الرغبة إلى الميل في تحصيل شيء ما بغية تحقيق اللذة (...) [يقال] عبر أو أبدى رغبة أي مرادا، وأمنية (...) [يقال كذلك] الرغبة في النجاح بمعنى الطموح والإرادة، والرغبة في المعرفة بمعنى الفضول.
إن تعدد هذه المفاهيم الدالة على الرغبة
يؤكد التباس المفهوم وتشعب معانيه، أما الدلالة الفلسفية عند لالاند في
معجمه الفلسفي فمضمونها أن الرغبة ميل عفوي واع نحو غاية معلومة أو متخيلة (..) وضدها النفور aversion.
يبدو من تعريف لالاند أنه قارن الرغبة
بالوعي، وبالغاية التي تكون واضحة أو مضمرة، وأورد ضدها وهو النفور فالرغبة
في أشياء لا تخلو من النفور من أشياء أخرى.
يلتبس مفهوم الرغبة Désir مع مفاهيم أخرى، مثل مفهوم الحاجة Besoin، ومفهوم الإرادة Volonté، فما الفرق بينهم؟ وهل الرغبة تحقق السعادة؟
الرغبة والحاجة:
تحيل الحاجة على كل ما هو ضروري لبقاء
الذات من مأكل وملبس ومسكن وغيره، أما الرغبة فتحيل على نزوع وميل الذات
إلى كل ما يجلب لها اللذة والاستمتاع سواء أكانت هذه الذات تحتاجه عمليا
وواقعيا أم لا، إذا كانت الحاجة تحيل إلى ما هو ضروري لبقاء الإنسان، فهل
يمكن الاكتفاء بها فقط؟
إن البقاء الذي يضمنه تحقيق الحاجات
الأساسية ليس إلا الحد الأدنى من الوجود والإنسان في هذا الجانب (البقاء)
لا يتميز كثيرا عن باقي الكائنات الحية، بل إن هناك عددا من الكائنات الحية
التي طورت استراتيجيات للبقاء تتفوق كثيرا عن تلك التي طورها الإنسان،
فالسلاحف مثلا عمرت لملايين السنين ولا يبدو وافي الأفق القريب أنها
ستنقرض!
إن الإنسان يشترك مع باقي الحيوانات في
الاعتماد على إشباع الحاجات الأساسية (البيولوجية أساسا) لضمان البقاء، وإن
كان يمتاز عنها بتعقد وتعدد حاجاته ما بين اجتماعية و"نفسية" وبيولوجية،
فإن هذا الامتياز هو امتياز نوع، فكثير من الكائنات تميل إلى التجمع في شكل
قطعان، ويحمي بعضها بعضا ويعتمد بعضها على بعض، بل إن منها من تملك تقسيما
للعمل ( النحل، النمل) وهي في هذا تشترك مع الإنسان في نوع حاجاته لكن
درجة تعقد الحاجات الإنسانية أكبر بكثير.
إذا سلمنا بأن الفروق بين الحاجات
الإنسانية والحاجات الحيوانية هي فروق درجة لا فروق نوع، فإنه لا يمكننا
التسليم بهذا فيما يخص الرغبات، فالرغبة هي خاصية إنسانية محضة.
الرغبة لا تحمل صفة الضرورة الحيوية، ولا
يعتمد بقاء الإنسان على إشباعها بل إن إشباع بعضها قد يهدد هذا البقاء
نفسه، لكن الإنسان يسعى جاهدا من أجل إشباعها، وهنا يكمن تميز الرغبة
الإنسانية عن الحاجة الحيوانية، فالإنسان يرغب في أكثر مما يحتاج، وحياته
هي مغامرة كبرى لتخطي سياج الضروريات فقط (عيش الكفاف) إلى فضاء الرغبات
(عيش الكماليات)، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان! إن الحاجة هي ضرورة بقاء،
أما الرغبة –مهما كان حكمنا عليها- فهي ضرورة تميز، وكلاهما ضروري لبقاء
الإنسان المبدع.
اشتراك الحاجة والرغبة في صفة الضرورة لا يعني تطابقهما، فالرغبة تختلف في كثير من الصفات والخصائص عن الحاجة:
·لا
توجد دائما علاقة تلازم بين الحاجة والرغبة، فكثير من الحاجات تكون ملحة
لكننا لا نرغب في تحقيقها (الحاجة للرياضة تكون ملحة عند البعض لكنه لا
يرغب في مزاولتها)، وبالمقابل هناك الكثير من الرغبات التي تلح لإشباعها
لكننا لا نحتاجها واقعيا (الرغبة في اقتناء ثياب جديدة رغم امتلاك ما يكفي
منها).
·الحاجة
لها موضوع واحد شعوري ومحدد (الحاجة للأكل، الحاجة للأمن)، أما الرغبة
فمواضيعها غير محددة بدقة، وغالبا ما تكون لا شعورية، وذلك لأن الموضوع
المعلن للرغبة لا يمثل دائما الموضوع الحقيقي بل مجرد تعويض عنه (رغبة
المراهق في دراجة فخمة قد لا تكون إلا تعويضا لرغبته بالظهور بمظهر
الرجولة).
·حاجات
الإنسان محدودة وثابتة أما رغباته فغير محدودة وغير ثابتة، فالحاجات التي
تضمن وضمنت بقاء الإنسان ظلت هي هي، أما رغبات الإنسان فغير محدودة وذلك
أنه كلما تحققت رغبة إلا وتم السعي وراء رغبة أخرى مما يجعلها غير قابلة
للإشباع المطلق (= الموت!).
·يمكن
إلغاء بعض الرغبات وتغيرها مع التقدم في السن وتغير المواقف واغتناء
التجارب...، لكن لا يمكن إلغاء الحاجات الأساسية دون تعريض الوجود المادي
للفرد للخطر.
·إشباع
بعض الرغبات قد يكون على حساب حاجات أخرى، وتحقيق حاجات معينة قد يخدم
الإنسان من إشباع بعض رغباته (الرغبة في صوم التطوع يلغي (أو يؤجل) الحاجة
للأكل، الحاجة للأمن وحفظ الذات .... الإنسان من المغامرة).
·تحقيق الحاجات يضمن الحياة والبقاء، لكن تحقيق بعض الرغبات قد يهدد هذه الحياة نفسها (الرغبة في تسلق الجبال الوعرة).
·الحاجات
تكون في أغلبها مشتركة بين أفراد النوع الواحد (أو المجتمع الواحد)، أما
الرغبات فتكون فردية أو مشتركة بين جماعات محدودة، فجميع أفراد النوع
البشري يشتركون في الحاجة للأكل والأمن ... لكنهم يتمايزون في رغباتهم
فالبعض قد يرغب في اقتناء سيارة في حين يرغب آخر في السفر، وحتى إن اشتركت
جماعة معينة في نفس الرغبة، اقتناء سيارة مثلا، فإنهم يختلفون في تفصيل نوع
عن آخر، فالرغبة هي مسألة فردية ولا يمكن لأحد أن يرغب بالنيابة عن الآخر،
ولا أن يجعل الآخرين يشاركونه رغباته.
·الحاجات
تتسم بالانسجام والمعقولية، أما الرغبات فتتسم بالتغير السريع والتناقض
أحيانا واللامعقولية أحيانا كثيرة، فنجد أن الفرد يغير رغباته بين لحظة
وأخرى، ويرغب في الشيء ونقيضه (الرغبة بالبقاء مع الأهل) ونجد عند البعض
كثيرا من الرغبات غير المعقولة، فمن الناس من يرغب في أن يكون له أجنحة، أو
أن يرجع القهقرة في السن، أو يكون سوبرمان! ويمكننا الاستطراد أكثر في
تعداد هي التمايزات والتدقيق في تفاصيلها، لكن فيما ذكرناه الكفاية، ولا بد
من الإشارة إلى أن ما عددناه من صفات الرغبة لا ينطبق بالضرورة على جميع
الرغبات، وإن كان يلزم ويشمل أغلبها.
ألا يمكن للحاجة أن تصبح رغبة؟
في نظر ميلاني كلاين، وهي من المحللين
النفسيين الأوائل الذين حاولوا تطبيق آليات التحليل النفسي على الأطفال،
وقد قادتها ملاحظتها للأطفال وتحليلها لذكريات الراشدين عن مرحلة طفولتهم
إلى نتائج مهمة، الأطفال الرضع يرغبون دائما في تواجد الأم (الثدي) معهم
سواء أكانوا جياعا أو لا، وقد استنتجت من ذلك أن الثدي يقوم بوظيفتين
مزدوجتين الأولى هي إشباع الحاجة البيولوجية للأكل والثانية –وهي الأهم-
تجنيب الطفل الخوف والقلق وتخليصه من دوافعه التدميرية وقلقه الاضطهادي،
لقد تحول إشباع الحاجة البيولوجية إلى إشباع للرغبة النفسية وكل ذلك يتم
بطريقة لا شعورية، وهذا يستدعي أن أي خلل يطال إشباع الحاجات البيولوجية
سيكون له أثر على إشباع الرغبات النفسية المرتبطة بها.
إن تحقيق الحاجات يضمن البقاء، وإشباع
الرغبات يضمن التميز، مع ميلاني كلاين نلاحظ أن الحاجة يمكن أن تتحول إلى
رغبة. فتلازم الحاجة والرغبة هو تلازم للبقاء مع التميز، وبعبارة أخرى إنه
تحديد لمستقبل الإنسان بوصفه الموجود الوحيد المميز بالرغبات.
تقول ميلاني كلاين إن الطريقة التي يتم بها
إشباع حاجات الرضيع إلى الثدي تترك أثرا عميقا على مستقبله وطبيعة شخصيته،
ولكي نفهم هذه الفكرة بشكل أفضل لابد من استحضار فرضية أساسية تنص أن
"الطفل أبو الرجل"، بمعنى أن ما يعيشه الفرد من خبرات وتجارب في طفولته
سيكون لها أبلغ الأثر في تحديد ملامح شخصيته مستقبلا، فجميع سمات
واضطراباتها التي تظهر في الكبر تجد نواتها في مرحلة الطفولة.
بل إن الفن والإبداع نفسه ما هو إلا إعلاء
للدوافع والرغبات غير المشبعة، ولكن بشكل غير مباشر، فكمية الإحباط
والتفريج الذي تسمح به الأم لطفلها هو المسؤول عن إذكاء نار البحث والتخيل
وخلق البديل (جوهر الإبداع) عند الطفل المحبط إحباطا متوسطا، فالطفل الذي
يرغب في الثدي ولا يناول إليه مباشرة تكون أمامه فرصة للإحساس بالرغبة
وتعويضها بالتخيل والبديل (مص الأصبع) وعندما يناول الثدي تكون أمامه فرصة
للربط بين الرغبة/ الحاجة والإشباع، مما يولد نفسه الثقة في نفسه والآخرين.
نستخلص مما سبق أن الرغبة تربط بالحاجة
بربط لا تصوري يجعل إشباع الحاجات إشباعا لرغبات مرتبطة بها، هذا الرباط
اللاشعوري هو المسؤول عن كثير من المفارقات والإشكاليات التي تثار عن علاقة
الحاجة والرغبة.
لقد تناولت ميلاني كلاين إشكالية الحاجة
والرغبة من وجهة نظر فردية غير سوسيولوجية، وربطت الإبداع بالتسامي الذي هو
في جوهره تحوير لإحباط طال رغبات فردية من "أم غير متفهمة"، وهذه الأطروحة
في جوهرها تتناقض مع بعض الأطروحات السوسيولوجية والانتروبولوجية، فرالف
لنتن مثلا يربط
الرغبة والحاجة وكيفية إشباعها بما هو اجتماعي، ويصنف الحاجات إلى ثلاثة
أنواع بيولوجية واجتماعية ونفسية وهي كلها خاضعة لما هو اجتماعي ومقولبة
ضمن المجال الثقافي، ومنه فالمجتمع والثقافة يحددان شكل إشباع الحاجة
وأنماط تصريفها.
لقد أشرنا فيما سبق إلى أن الثقافة والفن
هما وليدتا الرغبة الطامحة إلى تجاوز الحاجة، لكن مالينوفسكي يرى العكس،
ويؤكد على أن المجتمع وكل منتجاته هي نتاج لحاجات بيولوجية، فالحاجة إلى
التناسل هي التي أدت إلى الزواج وليس العكس، ونضيف على نفس المنوال، أن
الحاجة للأمن هي التي خلقت المنازل، والحاجة للراحة هي التي أنتجت
الموسيقى.
إن إشباع الرغبات وتحديد موضوعاتها يخضع
لمجموعة من الميكانيزمات النفسية والاجتماعية، ولكن هل الرغبة تخضع فقط لما
هو نفسي واجتماعي، أم أن هناك عوامل أخرى تتحكم فيها؟
لهذا التساؤل عدة إجابات مختلفة أولها هي
إجابة أفلاطون، فهذا الأخير يجعل من الرغبة شهوة لا عاقلة ويجب إخضاعها
للعقل والإرادة والتدبر، أما الإجابة الثانية الممكنة فهي إجابة شوبنهور
الذي يجعل من العقل مجرد خادم للرغبة، فهو يستعمل جميع الوسائل والتبريرات
(أفكار، منطق...) لإشباع الرغبة...
إن العلاقة بين الحاجة والرغبة هي علاقة جد
متداخلة ومعقدة تعقد الإنسان نفسه، فهما يتكاملان ويتناقضان ويتمايزان
أحيانا أخرى.وإذا سلمنا بكون الرغبة هي أحد أوجه التميز الإنساني فإنه من
الصعوبة بمكان تحديد مصدر هذه الرغبة والعوامل المتحكمة فيها، هل هي نفسية
أم اجتماعية أم عقلية؟ وإذا كنا نؤمن بتكامل المعارف وتعقد الظاهرة
الإنسانية فإنه لا يمكننا التضحية بأي بعد من الأبعاد التي يمكن أن تتدخل
في تشكيل الرغبة دون أن نضحي بالفهم المتكامل للإنسان.
الرغبة والإرادة
يلتبس مفهوم الرغبة Désir مع مفاهيم أخرى، مثل مفهوم الحاجة Besoinغير
أن الرغبة والحاجة ليستا عبارتان منفصلتان كلية، إحداهما عن الأخرى، فهما
قدرة يمتلكها كائن معين في الوجود فتتجلى على شكل غريزي صرف لدى الحيوان
فتعرف –القدرة- بالحاجة أي تلك الضرورة البيولوجية (مثل الأكل، النوم،
التناسل) والتي غايتها استمرار الكائن في الوجود، ولما كان الإنسان يشترك
مع الحيوان في هذا المعطى الحاجي، فإنه يمتاز عنه بتلك الكيفية التي يلبي
بها حاجاته وفق مجاله الاجتماعي والثقافي المتنوع والمتطور عبر التاريخ،
فتكون الرغبة بذلك تحويل الحاجة إلى ميل مرتبط بموضوع يفتقده الإنسان في
وضعه الحاضر ويريد الحصول عليه.
تحول المسافة إذن بين الذات الراغبة وموضوع
رغبتها عائقا يستلزم عنصر الوعي بصفته بعدا أساسيا في السلوك الإنساني،
يعمل على تحديد وسائل كفيلة بتحقيق الرغبة، هذا يجعلنا نعتبر أن الإنسان
كائن واع برغباته، التي تدفعه إلى تلبيتها، حتى وأن لم يعي تمام الوعي
دوافعها الضمنية والمضمرة، واستنادا عليه يقر سبينوزا بأن الإنسان لا يسعى
إلى شيء، لا يريده ولا يشتهيه، ولا يرغب فيه لكونه يعتقده شيئا طيبا، بل
على العكس من ذلك يعتبره شيئا طيبا لكونه يسعى إليه ويشتهيه ويرغب فيه.
يظهر أن لكل فرد رغباته الخاصة به، مادام
يسقط على الشيء المرغوب صفاتا ذاتية تجعله مرغوبا لديه، فهل هذا معناه أن
الرغبة مشروطة بالوعي كوحدة لقيمة الشيء المرغوب؟
يمكن القول بأن الرغبة والوعي متلازمان، فلكي يتجلى الوعي بصفته توجها نحو العالم الخارجي، ينبغي أن تحدد توجهه هذا رغبة ما.
إن وجود الإنسان ذاته، الوجود الواعي
بذاته، يستلزم ويفترض الرغبة، بعبارة أخرى، لكي يكون هناك وعي بالذات ينبغي
أن تكون هناك رغبة، ولكي تكون هناك رغبة ينبغي أن يكون هنالك وعي بالذات،
وبالتالي فالرغبة والوعي بالذات ما هما إلا أشيء واحد. إن الوعي بالذات هو
وعي راغب يتوجه نحو الخارج ليعود إلى الذات، فالرغبة لا تتجلى في شكل ميل
إل حفظ الذات فحسب، وبل وتأكيد لها كذلك. إن الذات تسعى من جهة إلى التعرف
عن ذاتها في الأشياء التي تمثل أمامها كموضوع، فتقوم بتحويلها عن طريق
الشغل أو الفن ... ومن جهة أخرى تسعى إلى الاعتراف بها من لدن الآخر أي من
وعي آخر، لكن هذا الاعتراف لا يمنح وإنما تتنازعه الذوات، من تعرفها على
ذاتها إلى الاعتراف بها هو انتقال من مجال الحياة العضوية أي الوجود
الطبيعي للإنسان إلى مجال الحياة المجتمعية.إن وعي الذات بذاتها إذن يتحقق
عبر/ بواسطة رغبة الاعتراف التي تحملها ذاتان متعارضتان كلاها ترغب في رغبة
الأخرى، وهي مرحلة ضرورية في تطور الوعي ليصبح وعيا بالذات، حيث يعطي
البشر معنى وقيمة لوجدهم وللعالم المحيط بهم.
وخلاصة ما عبر عنه هيجل نجد لها تعبيرا
مكثفا لدى لاكان الذي يقر أن "... رغبة الإنسان تجد معناها في رغبة الآخر،
لا لأن الآخر يحمل مفتاح موضوع الرغبة بل لأن أول موضوع للرغبة يجب أن
يعترف به الآخر"[2]
... باختلاف بسيط إذن فهيجل جعل الرغبة والوعي متلازمان في حين سوف يجعل
لاكان من عنصر اللاوعي عنصرا آخر بعيد النظر في الذات المسيطرة على سلوكها
وأهوائها ورغباتها؟.
إن الوعي موجب ومقنن للرغبة، بوصفها ميلا
واعيا تجاه موضوع معين، ولغاية معينة، فهل معنى ذلك أن الوعي متحكم في
ميولاته ونزوعه أم أن هناك نزوعا وميولا لا يتحكم فيها؟ والمثال، في هذا
الإطار أن الميل نحو شخص ما، قد لا تعي الذات دوافعه الحقيقية، ومن ثم
تنفلت الرغبة من منطقة الوعي والإرادة، ذاك فعلا هو الخطاب الذي يوجهه
التحليل النفسي إلى الذات [مخاطبا] "أنت تعتقدين أنك تعرفين كل ما يجري في
نفسك، (...) بل إنك لتذهبين إلى حد الاعتقاد بأن ما هو نفسي مطابق لما هو
شعوري، أي لما هو معروف من طرفك، وذلك رغم البراهين الواضحة على أن أشياء
كثيرة تحدث في حياتك النفسية أكثر من تلك التي تتماثل إلى شعورك3]]"
لقد أظهرت مكتشفات التحليل النفسي أن الذات
ليست سيدة مملكتها كما كان مترسخا في فلسفات الوعي، وقد تلبي رغبة دفينة
في النفس وقفت العوائق الاجتماعية والثقافية حاجزا دون تحقيقها، عبر آليات
العلم، فلتات اللسان، زلات القلم ...إلخ، وهذا ما أكده هو ما اعتبره
سبينوزا عملا بالعلل الحقيقية للرغبة؟ أليس ذلك الجهل هو انعدام معرفة
بخبايا النفس وأعماقها والتي سوف يضيف إليها اللاشعور إرضاءه هامة في تاريخ
الفلسفة؟
إن الرغبة مكون بشري، أساسي يشكل ماهية
الإنسان، بصفته ذاتا واعية، تطور وعيها ليصبح وعيا بالذات من خلال جدلية
الأنا والآخر، وبصفته ذاتا لا واعية في جزء منها حيث تخرج الرغبة عن مجال
السيطرة والتقنين.
الرغبة والسعادة
يختلف الناس في تمثلهم للسعادة، بين من يقصرها على حسن العيش، من حياة مرفهة،وامتلاك للأموال والثروات، وتلبية كاملة للرغبات، وتشيع لها، وتحقيق للذة
والمتعة في مختلف أشكالها وتجلياتها، وهناك من يقصرها على حسن السيرة من
حياة كريمة ومعتدلة ومنسجمة، وقد نجد الاختلاف بين الأفراد، فالمريض يرى
السعادة في الصحة، والفقير يراها في المال، والوحيد يراها في الأنس
والصداقة.
يظهر إذن أن التمثل الاجتماعي يهيمن عليه
المعنى المادي، الذي يقترن بإرضاء رغبات وشهوات الجسد، والاستمتاع باللذة
والرغبة بكل أشكالها.
وفي لسان العرب نجد: سعد، السعد، بمعنى
اليمن والخير، وسعد سعدا فهو سعيد، وسعد فهو مسعود، وهو نقيض النحس
والشقاوة، ويكتسب اليمن أي الخير دلالتين: الأولى تشير إلى ما هو مادي
محسوس، وتتمثل في الإرضاء والإشباع، أما الدلالة الثانية، فتشير إلى ما هو
عقلي، وتتمثل في التدبير.
تتحدد السعادة من الوجهة الفلسفية العامة
كحالة إرضاء وإشباع وارتياح تام للذات، يتسم بالقوة والثبات، ويتميز عن
اللذة للحظيتها، وعن الفرح لحركيته، ويبدو من هذا أن المسألة الفلسفية
تتحدد عبر مستويين:
مستوى كيفي يتعلق بالطبيعة النظرية
والماهوية للسعادة، هل هي مادية ترتبط بكل ما يحقق الإرضاء المادي من
رغبات، وامتلاك للخيرات والصحة والنفوذ.
مستوى مجرد يتعلق بكل ما يحقق اللذة العقلية، من معرفة وعلم، أم أنها تتجاوز هذا وذاك لترتبط باللذة الروحية والوجدانية.
لقد عمل المفكرون المسلمون الذين بحثوا في
موضوع السعادة على تأكيد شيئين: أولا ضبط مفهوم اللذة بالتمييز فيه بين
اللذة العقلية والجسدية، والمفاضلة بينهما، حيث أن اللذة العقلية أي
الرغبات العقلية من المعرفة والفكر أرقى شأنا، وأعلى مرتبة من اللذة
البدنية، والتي تظل عندهم محتقرة، وهذه المفاضلة نجد جذورها في النسق
الفلسفي الأفلاطوني – الأرسطي، الذي يمجد العقل ويرى أن العقل أسمى منزلة
من الرغبة والشهوة، حيث أن الرغبات الحسية مرتبطة بعالم الكون والفساد، في
حين أن الرغبات العقلية مرتبطة بعالم متعالي دائم لا يلحقه الفساد والتغير،
وانطلاقا من هذا كله، فإن سعادة الإنسان لا ترتبط بمدى إرضائه لملذاته
الحسية، وذلك لاعتبارات كثيرة منها: أن اللذة البدنية يشارك فيها الإنسان
جميع الحيوانات كرغبات الأكل والشرب.
لقد عمل ابن مسكويه على مهاجمة أولئك
الأبيقوريون –يقصد هنا الفلسفة الابيقورية التي جعلت اللذة في منزلة
الحكمة، وكذلك كل من يدافع على كون السعادة هي اللذة – الذين يحصلون
السعادة في الرغبات البدنية، فاعتبرهم من العامة الرعاع، وجهال الناس
السقاط، وفي هذا الصدد يقول ابن مسكويه في كتابه "تهذيب الأخلاق وتطهير
الأعراق": "... وظنوا أن جميع قواه الأخرى إنما ركبت فيه من أجل هذه
اللذات، والتوصل إليها، وأن النفس الشريفة التي سميناها ناطقة، إنما وهيت
له ليرتب بها الأفعال ويميزها، ثم يوجهها نحو هذه اللذات، لتكون الغاية
الأخيرة هي حصولها له على النهاية والغاية الجسمانية، وهذا هو رأي الجمهور
من العامة الرعاع، وجهال الناس والسقاط ... وسيظهر عند ذلك أن من رضي لنفسه
بتحصيل اللذات البدنية ... فقد رضي بأخس أنواع
العبودية، ... لأنه يصير نفسه الكريمة عبدا للنفس الدنيئة، التي يناسب بها
الخنازير، والخنافس والديدان، وخسائس الحيوانات التي تشاركه في هذا
المجال".
إن الرغبة في تحقيق وإشباع اللذات والشهوات
الحسية، تؤدي إلى جعل النفس أسيرة الشهوات، لا تستطيع أن تكسر هذه القيود
الحسية، فقوى الجسم من العقل والبصر والسمع والحركة، وغيرها من القوى
الأخرى، جعلت في الجسم لا من أجل تحقيق الشهوات والملذات، وإنما من أجل
السمو باللذة العقلية، فلا فرق بين طالب اللذات البدنية وخسائس الحيوانات
كالخنازير والخنافس، والديدان، ولأن الابيقوريون جعلوا النفس الشريفة
كالعبد الممتهن، وكالأجير المستعمل في خدمة النفس الشهوية لتخدمها في
المآكل والمشارب، ولأن الجسد لا يمكنه بأية حال أن يكون داعيا إلى الفضيلة،
فإن الداعين إلى السعادة إستنادا إلى الجسد ظلوا عند مستوى البهيمية، ومن
هنا فلا عجب أن نجد ابن مسكويه يشرف اللذة العقلية، باعتبارها رغبات
إنسانية من نوع آخر، ويعلي شأنها إلى درجة القداسة أحيانا، فهي لذة تامة
وشريفة ولا تمل.
إن تفضيل اللذة العقلية سيجعل من السعادة
خيرا على الإطلاق، لأننا نطلبها لذاتها كغاية، ونؤثرها لذاتها لا لشيء آخر
غيرها. إن أصل هذا التصور للرغبة والسعادة، يعود إلى نظرة فلاسفة المسلمين
إلى الإنسان من خلال الثنائية (نفس/ جسد)، فتم تمجيد النفس والعقل، واحتقار
الجسد والمادة، بل وجعلوا تحقيق السعادة خاصة، والفضيلة عامة، رهينا بمدى
تجاوز عوائق البدن وتطهير النفس من الرذائل والشهوات الرديئة، والنزوات
الفاحشة التي قد تعلق بها، فبقدر ما تلتبس النفس بالبدن وتتدنس بملذاته،
يبتعد الإنسان عن قبول الفضائل، وينخرط بالتالي في الشقاء والشر، وفي هذا
السياق جعل مسكويه من مسألة معرفة النفس وإثبات وجودها، ومباينتها للجسد،
المسلك الضروري لتحصيل السعادة خاصة وتهذيب الأخلاق عامة، فالجسد حسب ابن
مسكويه مرادف للرغبة، والرغبة توحي إلى تحقيق اللذة الحسية، وبالتالي عدم
سمو الإنسان إلى مرتبة مقدسة، ويضيف أيضا أن فضيلة النفس تكمن في التشوق
إلى العلوم و المعارف، وبحسب إلحاح الإنسان وإصراره على طلبها تكون سعادته.
إن تميز الإنسان بالعقل، هو ما يجعله يباين البهائم، ولا تكون السعادة
لغير الناطقين، وجعل أشرف الناس وأسعدهم من كان له عقلا يتشوق به إلى
العلوم والمعارف، وكانت الحكمة أسمى تجليات العقل البشري المتشوق، لزم
بالتالي أن تكون الحكمة سبيلا إلى السعادة التامة و طريقا لتحصيلها،
بالممارسة العقلية والتأمل في الذات، وفي الموجودات، فتكون بذلك السعادة
تأملية تتحقق بالإدراك العقلي، وهكذا سيحصل الفارابي السعادة، في الاتصال
العقلي بين العالم السفلي والعلوي، ويقصى كل الرغبات والشهوات والملذات
الجسدية باعتبارها سبيلا غير موصلة للسعادة الحقيقية.