تحيل الحاجة على كل ما هو ضروري لبقاء الذات من مأكل وملبس ومسكن وغيره، أما الرغبة فتحيل على نزوع وميل الذات إلى كل ما يجلب لها اللذة والاستمتاع سواء أكانت هذه الذات تحتاجه عمليا وواقعيا أم لا، إذا كانت الحاجة تحيل إلى ما هو ضروري لبقاء الإنسان، فهل يمكن الاكتفاء بها فقط؟

إن البقاء الذي يضمنه تحقيق الحاجات الأساسية ليس إلا الحد الأدنى من الوجود والإنسان في هذا الجانب (البقاء) لا يتميز كثيرا عن باقي الكائنات الحية، بل إن هناك عددا من الكائنات الحية التي طورت استراتيجيات للبقاء تتفوق كثيرا عن تلك التي طورها الإنسان، فالسلاحف مثلا عمرت لملايين السنين ولا يبدو وافي الأفق القريب أنها ستنقرض!

إن الإنسان يشترك مع باقي الحيوانات في الاعتماد على إشباع الحاجات الأساسية (البيولوجية أساسا) لضمان البقاء، وإن كان يمتاز عنها بتعقد وتعدد حاجاته ما بين اجتماعية و"نفسية" وبيولوجية، فإن هذا الامتياز هو امتياز نوع، فكثير من الكائنات تميل إلى التجمع في شكل قطعان، ويحمي بعضها بعضا ويعتمد بعضها على بعض، بل إن منها من تملك تقسيما للعمل ( النحل، النمل) وهي في هذا تشترك مع الإنسان في نوع حاجاته لكن درجة تعقد الحاجات الإنسانية أكبر بكثير.

إذا سلمنا بأن الفروق بين الحاجات الإنسانية والحاجات الحيوانية هي فروق درجة لا فروق نوع، فإنه لا يمكننا التسليم بهذا فيما يخص الرغبات، فالرغبة هي خاصية إنسانية محضة.

الرغبة لا تحمل صفة الضرورة الحيوية، ولا يعتمد بقاء الإنسان على إشباعها بل إن إشباع بعضها قد يهدد هذا البقاء نفسه، لكن الإنسان يسعى جاهدا من أجل إشباعها، وهنا يكمن تميز الرغبة الإنسانية عن الحاجة الحيوانية، فالإنسان يرغب في أكثر مما يحتاج، وحياته هي مغامرة كبرى لتخطي سياج الضروريات فقط (عيش الكفاف) إلى فضاء الرغبات (عيش الكماليات)، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان! إن الحاجة هي ضرورة بقاء، أما الرغبة –مهما كان حكمنا عليها- فهي ضرورة تميز، وكلاهما ضروري لبقاء الإنسان المبدع.

اشتراك الحاجة والرغبة في صفة الضرورة لا يعني تطابقهما، فالرغبة تختلف في كثير من الصفات والخصائص عن الحاجة:

· لا توجد دائما علاقة تلازم بين الحاجة والرغبة، فكثير من الحاجات تكون ملحة لكننا لا نرغب في تحقيقها (الحاجة للرياضة تكون ملحة عند البعض لكنه لا يرغب في مزاولتها)، وبالمقابل هناك الكثير من الرغبات التي تلح لإشباعها لكننا لا نحتاجها واقعيا (الرغبة في اقتناء ثياب جديدة رغم امتلاك ما يكفي منها).

· الحاجة لها موضوع واحد شعوري ومحدد (الحاجة للأكل، الحاجة للأمن)، أما الرغبة فمواضيعها غير محددة بدقة، وغالبا ما تكون لا شعورية، وذلك لأن الموضوع المعلن للرغبة لا يمثل دائما الموضوع الحقيقي بل مجرد تعويض عنه (رغبة المراهق في دراجة فخمة قد لا تكون إلا تعويضا لرغبته بالظهور بمظهر الرجولة).

· حاجات الإنسان محدودة وثابتة أما رغباته فغير محدودة وغير ثابتة، فالحاجات التي تضمن وضمنت بقاء الإنسان ظلت هي هي، أما رغبات الإنسان فغير محدودة وذلك أنه كلما تحققت رغبة إلا وتم السعي وراء رغبة أخرى مما يجعلها غير قابلة للإشباع المطلق (= الموت!).

· يمكن إلغاء بعض الرغبات وتغيرها مع التقدم في السن وتغير المواقف واغتناء التجارب...، لكن لا يمكن إلغاء الحاجات الأساسية دون تعريض الوجود المادي للفرد للخطر.

· إشباع بعض الرغبات قد يكون على حساب حاجات أخرى، وتحقيق حاجات معينة قد يخدم الإنسان من إشباع بعض رغباته (الرغبة في صوم التطوع يلغي (أو يؤجل) الحاجة للأكل، الحاجة للأمن وحفظ الذات .... الإنسان من المغامرة).

· تحقيق الحاجات يضمن الحياة والبقاء، لكن تحقيق بعض الرغبات قد يهدد هذه الحياة نفسها (الرغبة في تسلق الجبال الوعرة).

· الحاجات تكون في أغلبها مشتركة بين أفراد النوع الواحد (أو المجتمع الواحد)، أما الرغبات فتكون فردية أو مشتركة بين جماعات محدودة، فجميع أفراد النوع البشري يشتركون في الحاجة للأكل والأمن ... لكنهم يتمايزون في رغباتهم فالبعض قد يرغب في اقتناء سيارة في حين يرغب آخر في السفر، وحتى إن اشتركت جماعة معينة في نفس الرغبة، اقتناء سيارة مثلا، فإنهم يختلفون في تفصيل نوع عن آخر، فالرغبة هي مسألة فردية ولا يمكن لأحد أن يرغب بالنيابة عن الآخر، ولا أن يجعل الآخرين يشاركونه رغباته.

· الحاجات تتسم بالانسجام والمعقولية، أما الرغبات فتتسم بالتغير السريع والتناقض أحيانا واللامعقولية أحيانا كثيرة، فنجد أن الفرد يغير رغباته بين لحظة وأخرى، ويرغب في الشيء ونقيضه (الرغبة بالبقاء مع الأهل) ونجد عند البعض كثيرا من الرغبات غير المعقولة، فمن الناس من يرغب في أن يكون له أجنحة، أو أن يرجع القهقرة في السن، أو يكون سوبرمان! ويمكننا الاستطراد أكثر في تعداد هي التمايزات والتدقيق في تفاصيلها، لكن فيما ذكرناه الكفاية، ولا بد من الإشارة إلى أن ما عددناه من صفات الرغبة لا ينطبق بالضرورة على جميع الرغبات، وإن كان يلزم ويشمل أغلبها.

ألا يمكن للحاجة أن تصبح رغبة؟

في نظر ميلاني كلاين، وهي من المحللين النفسيين الأوائل الذين حاولوا تطبيق آليات التحليل النفسي على الأطفال، وقد قادتها ملاحظتها للأطفال وتحليلها لذكريات الراشدين عن مرحلة طفولتهم إلى نتائج مهمة، الأطفال الرضع يرغبون دائما في تواجد الأم (الثدي) معهم سواء أكانوا جياعا أو لا، وقد استنتجت من ذلك أن الثدي يقوم بوظيفتين مزدوجتين الأولى هي إشباع الحاجة البيولوجية للأكل والثانية –وهي الأهم- تجنيب الطفل الخوف والقلق وتخليصه من دوافعه التدميرية وقلقه الاضطهادي، لقد تحول إشباع الحاجة البيولوجية إلى إشباع للرغبة النفسية وكل ذلك يتم بطريقة لا شعورية، وهذا يستدعي أن أي خلل يطال إشباع الحاجات البيولوجية سيكون له أثر على إشباع الرغبات النفسية المرتبطة بها.

إن تحقيق الحاجات يضمن البقاء، وإشباع الرغبات يضمن التميز، مع ميلاني كلاين نلاحظ أن الحاجة يمكن أن تتحول إلى رغبة. فتلازم الحاجة والرغبة هو تلازم للبقاء مع التميز، وبعبارة أخرى إنه تحديد لمستقبل الإنسان بوصفه الموجود الوحيد المميز بالرغبات.

تقول ميلاني كلاين إن الطريقة التي يتم بها إشباع حاجات الرضيع إلى الثدي تترك أثرا عميقا على مستقبله وطبيعة شخصيته، ولكي نفهم هذه الفكرة بشكل أفضل لابد من استحضار فرضية أساسية تنص أن "الطفل أبو الرجل"، بمعنى أن ما يعيشه الفرد من خبرات وتجارب في طفولته سيكون لها أبلغ الأثر في تحديد ملامح شخصيته مستقبلا، فجميع سمات واضطراباتها التي تظهر في الكبر تجد نواتها في مرحلة الطفولة.

بل إن الفن والإبداع نفسه ما هو إلا إعلاء للدوافع والرغبات غير المشبعة، ولكن بشكل غير مباشر، فكمية الإحباط والتفريج الذي تسمح به الأم لطفلها هو المسؤول عن إذكاء نار البحث والتخيل وخلق البديل (جوهر الإبداع) عند الطفل المحبط إحباطا متوسطا، فالطفل الذي يرغب في الثدي ولا يناول إليه مباشرة تكون أمامه فرصة للإحساس بالرغبة وتعويضها بالتخيل والبديل (مص الأصبع) وعندما يناول الثدي تكون أمامه فرصة للربط بين الرغبة/ الحاجة والإشباع، مما يولد نفسه الثقة في نفسه والآخرين.

نستخلص مما سبق أن الرغبة تربط بالحاجة بربط لا تصوري يجعل إشباع الحاجات إشباعا لرغبات مرتبطة بها، هذا الرباط اللاشعوري هو المسؤول عن كثير من المفارقات والإشكاليات التي تثار عن علاقة الحاجة والرغبة.

لقد تناولت ميلاني كلاين إشكالية الحاجة والرغبة من وجهة نظر فردية غير سوسيولوجية، وربطت الإبداع بالتسامي الذي هو في جوهره تحوير لإحباط طال رغبات فردية من "أم غير متفهمة"، وهذه الأطروحة في جوهرها تتناقض مع بعض الأطروحات السوسيولوجية والانتروبولوجية، فرالف لنتن مثلا ير بط الرغبة والحاجة وكيفية إشباعها بما هو اجتماعي، ويصنف الحاجات إلى ثلاثة أنواع بيولوجية واجتماعية ونفسية وهي كلها خاضعة لما هو اجتماعي ومقولبة ضمن المجال الثقافي، ومنه فالمجتمع والثقافة يحددان شكل إشباع الحاجة وأنماط تصريفها.

لقد أشرنا فيما سبق إلى أن الثقافة والفن هما وليدتا الرغبة الطامحة إلى تجاوز الحاجة، لكن مالينوفسكي يرى العكس، ويؤكد على أن المجتمع وكل منتجاته هي نتاج لحاجات بيولوجية، فالحاجة إلى التناسل هي التي أدت إلى الزواج وليس العكس، ونضيف على نفس المنوال، أن الحاجة للأمن هي التي خلقت المنازل، والحاجة للراحة هي التي أنتجت الموسيقى.

إن إشباع الرغبات وتحديد موضوعاتها يخضع لمجموعة من الميكانيزمات النفسية والاجتماعية، ولكن هل الرغبة تخضع فقط لما هو نفسي واجتماعي، أم أن هناك عوامل أخرى تتحكم فيها؟

لهذا التساؤل عدة إجابات مختلفة أولها هي إجابة أفلاطون، فهذا الأخير يجعل من الرغبة شهوة لا عاقلة ويجب إخضاعها للعقل والإرادة والتدبر، أما الإجابة الثانية الممكنة فهي إجابة شوبنهور الذي يجعل من العقل مجرد خادم للرغبة، فهو يستعمل جميع الوسائل والتبريرات (أفكار، منطق...) لإشباع الرغبة...

إن العلاقة بين الحاجة والرغبة هي علاقة جد متداخلة ومعقدة تعقد الإنسان نفسه، فهما يتكاملان ويتناقضان ويتمايزان أحيانا أخرى.وإذا سلمنا بكون الرغبة هي أحد أوجه التميز الإنساني فإنه من الصعوبة بمكان تحديد مصدر هذه الرغبة والعوامل المتحكمة فيها، هل هي نفسية أم اجتماعية أم عقلية؟ وإذا كنا نؤمن بتكامل المعارف وتعقد الظاهرة الإنسانية فإنه لا يمكننا التضحية بأي بعد من الأبعاد التي يمكن أن تتدخل في تشكيل الرغبة دون أن نضحي بالفهم المتكامل للإنسان