إن مسألة اللغة إشكالية أنطلوجية خصها الإنسان مكانة هامة من حيث هو متوسل بأدوات منطقية وفلسفية وتجريبية. اختزلت في حقل التكلم كممارسة حاولت الإجابة على أسئلة الوجود، وكسبيل للتواصل مع الواقع باعتباره مجموعة الأشياء غير المسماة والضامن الأساسي للتعرف على المحيط الخارجي.
فكيف حاول المهتمون مقارنة مفهوم اللغة؟و ما هي التعاريف التي منحت لهذا المفهوم؟
ارتبطت اللغة في تداولاتها بالكلام، فعندما يراد التعبير، مثلا، عن ممارسة أحد الناس للغة ما يقال إنه يتكلم تلك اللغة. وكأن اللغة اسم لشيء لا يتحقق إلا من خلال فعل الكلام. وهذا الارتباط بين اللغة والكلام، متضمن في الدلالة المعجمية لكلمة لغة نفسها. فهي مشتقة، في اللغة العربية، من اللغا أو اللغو، ويعني الكلام غير المفيد، الفارغ من المعنى، كما تعني الكلام المميز لمجتمع معين، بحيث تتحدد اللغة في لسان العرب لابن منظور بأنها: "أدوات يعبر بها قوم عن أغراضهم" وإذا رجعنا لأي معجم فرنسي سنجد على انها مشتقة من كلمة لاتينية Lingua التي تعني الكلام واللسان. كما تدل كلمة Logos الإغريقية على الكلام والفكر والعقل.
كما يعرفها ابن جني بأنها نظام من الرموز الصوتية التي يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، هذه الرموز التي وضعت للإعلان عن الأشياء المعلومات فإذا استحضر الرمز أو اللفظ عرف به ما سماه 0000000 ليمتاز عن غيره، ويعني بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين[1].
انطلاقا من هذه التعاريف، يتضح على أن الكلام فعل صوتي فردي يتم في الزمان ويتلاشى ضمنه، بينما تبقى اللغة مجموعة من الكلمات والأصوات والقواعد الثابتة، التي من خلالها يتحقق فعل الكلام، وبموجبها يبني المجتمع معرفته ويحقق تواصله، هذا الأخير الذي قد يتحقق بالاستناد إلى وسائل أخرى غير الكلام – تندرج بدورها تحت غطاء اللغة – الحركات، الإيماءات الجسدية، العلامات والرموز.
وبالتالي فاللغة، ظاهرة قد تتخذ صورا صوتية[2] أو صورا كونية[3].
ومن هذا المنطلق تتخذ اللغة طابع الظاهرة المعقدة التي يمكن أن تشكل موضوع دراسات متعددة – الفيزيزلوجيا[4]، السوسيولوجيا[5]، الأنثروبولوجيا[6]، السيكولوجيا[7]، اللسانيات...
وتستمد إشكالية اللغة أصولها من الفلسفة اليونانية القديمة حيث كانت فكرة محاكاة الكلمات للأشياء فكرة قديمة، نجدها عند الحضارات الشرقية، فأدخلها أفلاطون إلى فلسفته الخاصة، حيث اعتقد هذا الفيلسوف أن تقنين اللغة من اختصاص المشرع (الفيلسوف) الذي يعرف كيف يصنع الكلمات لأن الأسماء لابد أن تكون من جنس الأشياء التي تعبر عنها، وذلك حتى تكون مطابقة لها وتستطيع التأثير عليها. فالأطروحة الأفلاطونية (من خلال محاورة كريتل- عدالة الأسماء) بهذا الصورة، تجمع بين تصورين: التصور الفلسفي الذي يؤكد أن اللغة محاكاة للطبيعة، والتصور الفلسفي الكلاسيكي الذي يجعل وضع اللغة مقصورا على بعض المشرعين والحكماء.
وتجدر الإشارة إلى أن البحث في أصل اللغة أصبح متجاوزا، لأن إشكالية اللغة أعمق وأعقد من ذلك.
بالوقوف عند كل ما تقدم، تتضح الإشكالية الفلسفية التي نسعى إلى مقاربتها من خلال هذا الدرس، والتي يمكن تفريعها إلى التساؤلات التالية:
- كيف يمكن حصر الظاهرة اللغوية في الإنسان؟ ما الذي يجعله كائنا مفكرا ورامزا؟
- ما علاقة اللغة بالفكر؟ هل يمكن التفكير بدون كلمات؟
- هل اللغة منظومة قواعد ومبادئ تعمل باستقلال عن مؤسسات المجتمع وقيمه، أم أنها تحمل سلطة محايثة لها؟
1- اللغة خاصية إنسانية:
لقد حاول الفلاسفة الإجابة عن السؤال التالي: كيف يمكن تفسير وجود لغة عند الإنسان؟
يعتبر ديكارت* من المهتمين بالظاهرة اللغوية خصوصا وأنه حاول باستمرار اقامة الفروق بين الإنسان والحيوان. وعلى الرغم من ذلك استطاع أن يقترب من بعض النظريات العلمية، وبالخصوص نظريات التعلم التي بنت أسسها على تجارب بافلوف*. فقد أكدت دراسات ديكارت أنه يمكن اعتبار الأصوات التي تصدر عن الحيوانات مجرد استجابات اتفعالية (رد فعل، استجابة شرطية) لمؤثرات (مثبرات) تسبب له لذة أو ألما، اكتسبتها نتيجة الدعم، فالصوت المشروط لا يمكن اعتباره إلا فعلا منعكسا شرطيا وليس تواصلا. ويرى ديكارت أن السبب في وجود لغة لدى الإنسان وانعدامها عند الحيوان هو العقل (الفكر).
"...مما يستحق الذكر أنه ليس من الناس... حتى دون أن نستثني البذهاء منهم، من لا يقدرون على تأليف كلمات مختلفة، وأن يركبوا منها كلاما به يجعلون أفكارهم مفهومة. وبالعكس، فليس من الحيوان آخر، مهما كان كاملا ومهما نشأ نشأة سعيدة، يستطيع أن يفعل ذلك."[8] فاللغة إذن ليست ظاهرة فسيولوجية، فالحيوان يتوفر على أعضاء الكلام، لكنه يفتقر إلى اللغة، في حين أن تعطل هذه الأعضاء عند الإنسان لا يمنعه من إنتاج لغة. كما يلاحظ ذلك عند الصم والبكم. لذا يصح القول بأن الحيوان لا يملك عقلا مطلقا، ومن ثمة فهو عاجزا عن التواصل.
وقد تعززت نظرية ديكارت هذه بتمثلات الدراسات اللسانية المعاصرة. حيث أكد بنفينست* بالرجوع إلى بعض التجارب التي أجريت على النحل، أن النحلة تستطيع التواصل في إطار شروط فيزيائية معينة، إلا أن هذا التواصل عبارة عن رقصات لا تستدعي الحوار: فلا يمكن لنحلة أن تعيد إنتاج رسالة نحلة أخرى، (غياب الإرسال المجدد). وموضوع الرسالة مرتبة دائما بشروط موضوعية ينحصر في مكان وجود الغذاء، لأن لغة الحيوان لغة نمطية ومرتبطة باستمرار بدوافع غريزية، في حين أن لغة الإنسان تعتمد على الفكر. لذا لا يمكن أن نجد خلافا بين رسالة نحلة وأخرى، إلا فيما يخص متغيرات مرتبطة بالمكان، وأخر لغة النحل لا تقبل التحليل، نظرا لمحدودية مكوناتها، في حين أن اللغة البشرية توصف بأنها شبكة رمزية من التأليفات اللانهائية من الدلائل والمورفيمات والفونيمات.
من هنا تتضح الرؤية الفلسفية لكل من ديكارت وبنفنست، أن اللغة خاصية إنسانية. فكيف حاول كاسرير* مقاربة هذه الإشكالية؟
لم يعد الإنسان عند كاسرير مجرد حيوان ناطق بل أصبح في المحل الأول حيوانا خالقا للرموز، وأصبحت صفته هذه هي الدليل الوحيد على إنسانيته.
فإذا كانت الفلسفة النقدية، (مع كانط) قد عينت أساسا بنقد العقل، فإنه ترتب على ذلك أن أصبح العامل الوحيد الحاسم في تمييز الإنسان في ضوء هذه الفلسفة هو العقل.
ومن بعده ديكارت.
إلا أن كاسرير يرى بأن الجانب العقلي لا يمكن أن ترد إليه كل صور الحضارة الإنسانية، مترتب عن ذلك أن أصبح العقل فرعا واحدا من فروع كثيرة تندرج كلها تحت طابع واحد يميز الإنسان ألا وهو القدرة على الرمز. وعلى هذا الأساس يرى كاسرير أنه بدلا من أن نعرف الإنسان باعتباره حيوانا عاقلا، فإن علينا أن نعرفه باعتباره حيوانا رامزا.
فالإنسان عنده لا يعيش في عالم حضاري، ولما كان العالم الحضاري يتكون من اللغة والأسطورة والفن والدين... وهو ما يمثل العالم الرمزي. فإن دراسة الإنسان تصبح قائمة على أساس دراسة هذه الرموز.
ولم يتوقف كاسيرر عند هذا الحد، بل زاد موقفه تحليلا، فأوضح أن لكل كيان عضوي (إنسان+حيوان) (بالاستناد إلى دراسة العالم يوكسل) جهازان: جهاز الاستقبال، وجهاز التأثير، كما يضيف جهازا آخر يميز الإنسان عن غيره وهو الجهاز الرمزي.
يقول كاسيرر: "تبدأ فلسفة الأشكال الرمزية من فرض معين مضمونه أنه إذا كان هناك تعريف لطبيعة الإنسان أو جوهره. فإن هذا التعريف لا يفهم إلا باعتباره لا وظيفيا ولا ماديا، فنحن لا نستطيع أن نعرفه بإمكانية يحملها في ذاته أو غريزة تؤكدها الملاحظة التجريبية، عن الطابع المميز الأكبر للإنسان، أي علامته الفارقة ليس هو طبيعته الميتافيزيقية وإنما هو عمله، هذا العمل أعنى جهاز الفعاليات الإنسانية هو الذي يحدد دائرة الإنسانية، وتمثل اللغة والأسطورة والدين والفن والعلم قطاعات متنوعة من هذه الدائرة."[9]
من خلال هذا، نسنتنج أن اللغة نشاط رمزي، يستطيع الإنسان بواسطته أن يتمثل الواقع وكذا حاجة على التقيد به، واستحضاره في صورته وشكله الماديين، وهذا ما يتيح لنا أن نتساءل حول طبيعة العلاقة الموجودة بين اللغة والفكر. وبالتالي: هل توجد بين اللغة والفكر علاقة تبعية وتلازم؟ أم هل بينهما علاقة انفصال وقطيعة؟
2 اللغة و الفكر:
إن العلاقة بين اللغة والفكر: الواحدة منهما تقول بانفصال اللغة والفكر، والأخرى تؤكد – على العكس- فكرة الاتصال بينهما. فإذا تأملنا موقف برغسون Bergson، نجده يؤكد ان اللغة كوسيلة تخرج الإنسان من الجهل إلى المعرفة، إلا أنه يعتبرها أداة غير كافية نظرا لطابعها المحدود مقارنة مع الموضوعات اللانهائية، فعلى العقل أن يتدخل باستمرار ليضفي على الكلمات دلائل جديدة من خلال عملية إلحاقها بأشياء لم تكن ضمن اهتماماته قبلا. وهذه الطريقة ينقل العقل الأشياء من المجهول إلى المعلوم، ومن ثمة يرى برغسون أن العقل يستعمل باستمرار الطريقة التي ألفها في تعامله مع المادة الجامدة.
إنه لا يمكن فهم الموقف البرغسوني في طرحه لعلاقة اللغة بالفكر إلا من خلال التمييز بين ثابتين: عمل العقل وعمل الحدس، فالعقل في نظر برغسون – يتعامل – مثلا – مع الكائن الحي على انه ليس كذلك، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يملكها العقل للتأثير على الأشياء. غير أن هذه الطريقة برغماتية وميكانيكية، تلجا إلى قتل الحي وتثبيت المتحرك، والقضاء على الاتصال، أما الحقيقة فهي متجلية – حسب برغسون – في عمل الحدس الذي يدرك "الديمومة". وإذا اعتبرنا اللغة من إبداع العقل، فإنها تصبح وسيلة، وأداة خطيرة يستطيع العقل أن يحق من خلالها عمله النفعي، ومن ثمة تكون اللغة عاجزة عن التعبير عن "الديمومة"، وبالتالي عاجزة عن التعبير وعن الفكر الحدسي المدرك لتلك "الديمومة".
هكذا يتأكد أن الموقف البرغسوني يتلخص في ترجيح كفة انفصال اللغة عن الفكر وعجزها عن التعبير عنه، وتلتقي مع أطروحة برغسون عدة أطروحات أخرى من أبرزها الأطروحة الصوفية، فما قد يفهمه الجمهور من كفر وزندقة وشرك وشطحان المتصوفة (كقول الحلاج مثلا: "ما في الحبة إلا الله" أو قول البسطامي "سبحاني ما أعظم شأني" ، لا يؤكد ذلك في العمق إلا أن التجربة الصوفية تجربة روحية باطنية ووجدانية فردية، تعجز اللغة عن ترجمتها والتعبير عنها بإخلاص.
كما نجد أن عالم النفس الأمريكي واطسون حاول التأكيد من جهته على أن التعبير عن الفكر يحتاج إلى نضج في أعضاء النطق، وأن العادات العضلية المكتسبة داخل اللغة الظاهرة هي المسؤولة عن اللغة المضمرة والباطنية (الفكر) وأنه بواسطة التوليفات العضلية المكتسبة داخل اللغة الظاهرة هي المسؤولة عن اللغة المضمرة والباطنية (الفكر). وأنه بواسطة التوليفات العضلية تستطيع الإفصاح عن جميع الكلمات.
فإذا كان برغسون يؤكد أن هناك انفصال بين اللغة والفكر، نجد أن ميرلوبونتي في مقابل ذلك يؤكد أن هناك ارتباطا بين اللغة والفكر ولا يمكن اعتبارهما في أي حال من الأحوال، موضوعين منفصلين. إن التفكير الصامت الذي يوحي لنا بوجود حياة باطنية هو – في الحقيقة- مونولوج داخلي يتم بين الذات ونفسها، لأن اللغة والفكر يشكلان وجودا علائقيا مرتبطا ومتزامنا. كما ترى الطروحات اللسانية المعاصرة. خاصة منها أطروحة كرستيفا، أن بين اللغة والفكر علاقة تلازم وتبعية. حيث ترى جوليا كرستيفا Kristeva. أن اللغة منظورا إليها من خارج تكتسي طابعا ماديا متنوعا، فيمكنها أن تتمظهر في صورة سلسلة من الأصوات المنطوقة. أو في صورة شبكة من العلامات المكتوبة، أو على شكل لعبة من الإيماءات، وهذه الحقيقة المادية تجسم ما نسميه فكرا، أي أن اللغة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يوجد بها الفكر، بل هي حقيقة وجوده وخروجه إلى الوجود، أو كما تقول جوليا كريستيفا: "إن اللغة هي جسم الفكر".
إن التساؤل الذي يفرض نفسه في هذا الإطار هو: أي الأطروحات يجب الإقرار بها؟ إذا قارنا بين الأطروحات التي بحثت في طبيعة العلاقة الموجودة بين اللغة والفكر، يلاحظ أن الأطروحات التي تؤكد وجود علاقة الانفصال بينهما تتمثل في الطروحات الفلسفية المثالية. في حين أن القول بوجود علاقة التلازم بين اللغة والفكر تتبناها وتدعمها الأطروحات العلمية، فقد بينت – مثلا- الأبحاث العلمية التي أجريت عل ظاهرة الأفازيا Aphaiel أن المرض اللغوي هو في الحقيقة مرض عقلي، كما أكدت الطروحات اللسانية من خلال جوليا كرستيفا أنه لا يمكن الحديث في علاقة اللغة والفكر عن وجودين منفصلين، بل واحد، وفي نفس السياق شبه دي سوسير Desaussure العلاقة بين اللغة والفكر بوجه، الورقة وظهرها حيث قال: "إن الفكر هو وجه الصفحة، بينما الصوت هو ظهر الصفحة، ولا يمكن قطع الوجه دون أن يتم في الوقت نفسه قطع الظهر، وبالمثل لا يمكن في مضمار اللغة، فصل الصوت أو فصل الفكر عن الصوت.
إن إشكالية العلاقة بين الفكر واللغة، تحمل في طياتها إشكاليات أخرى عديدة ومتداخلة، ومن أبرز هذه الإشكاليات، إشكالية الوظائف التواصلية للغة باعتبارها تواضعا اجتماعيا وتأليفا بين عناصر متعددة، فكيف يتحدد التواصل بواسطة النسق اللغوي؟ هل يتحقق التوصل في إطار من الشفافية والوضوح والتأمين أم أن عملية التواصل تدخل عوامل تقصي الشفافية.
إن النظرية التواصلية تعتبر اللغة أداة تواصل وتبليغ، وعملية التواصل تتم في إطار من الوضوح والشفافية بين المتكلمة، أو بتعبير آخر عملية التواصل هي تبليغ وتلاق بين ذوات متكلمة وأخرى متلقية، تتم في إطار من الوضوح والشفافية وفي شروط ذاتية وموضوعية، وقد حدد جاكبسون Jakobson، عوامل التواصل فيما يلي: المرسل: وهو الطرف المبلغ للرسالة سواء كان فردا أو جماعة أو هيئة أو مؤسسة.. المتلقي: (المرسل إليه)، وهو الطرف المستقبل للرسالة، الرسالة: وهي الخطاب الذي يوجهه المرسل إلى المتلقي.. المرجع: (أو السياق) وهو الموضوع الذي تتمحور حوله الرسالة. روابط الاتصال والمقصود بها القنوات المادية والنفسية التي تسهل عملية انتقال الرسالة وأخيرا السنن Le code وهو النظام الرمزي (لغة التواصل) المشترك بين المرسل والمتلقي. وإذا توفرت هذه العوامل، فإن اللغة تؤدي الوظائف التواصلية التالية:
1- الوظيفة الانفعالية: وهي ما تسعى رسالة ما تحقيقه من خلال التعبير عن الشعور الانفعالي للمرسل، سواء كان صادقا أو كاذبا.
2- الوظيفة التأثيرية: وهي الطريقة التي قد يضطر المرسل إلى نهجها من أحل التأثير على المتلقي، وفي هذه الحالة تتخذ الرسالة شكل صيغ النداء والأمر.
3- الوظيفة الاتصالية: وهي الصيغ اللغوية التي قد يلجأ إليها المرسل حتى لا يكون هناك فتور في التواصل، أو تراخ في الحديث.
4- وظيفة وصف اللغة للغة: وهي وظيفة يمكن أن تتجلى في كل دراسة لخطاب من الخطابات أو رسالة من الرسائل، وهذه الحالة تتخذ الرسالة صورا تحليلية، أو نقدية، أو صور شروح وتفسيرا..إلخ.
5- الوظيفة الشعرية: وهي الصور التي يجب أن تتحقق في الرسالة ذاتها على مستوى جمالية التعبير، والاتساق اللغوي، وضبط للقواعد واحترام لها.
إن سرد الوظائف بهذا الشكل، يبين أن الرسالة الواحدة يمكنها أن تقوم بكل هذه الوظائف، لذا قال Kakobson، إن تحديد رسالة ما بالوظيفة المهيمنة لا يجب أن يحجب عنا الوظائف المتبقية.
∙ 3 اللغة والسلطة
تعد اللغة ظاهرة معقدة، مما جعلها تطال ميادين مختلفة ومتعددة كميدان السلطة والفكر والإيديولوجية والمنطق ... إلخ، إذ كان من المعروف أن اللغة أداة سلطة وتسلط، لكن مع الدراسات اللغوية الحديثة تأكد أن للغة ذاتها سلطة على النفوس والعقول وأنها تتضمن رؤية للعالم، وأن تحليل لغة السلطة يتعين أن يمر أولا عبر سلطة اللغة ذاتها، خاصة في مجتمعنا المليء بالكلمات والرموز والعلامات التي تداهم الفرد بواسطة وسائل الإعلام أو وسائل المعرفة المختلفة عبر أجهزة الإيديولوجيا والسلطة ذاتها.
لقد أصبح من المؤكد من خلال تصورات العديد من الفلاسفة أن هناك علاقة وطيدة بين اللغة والسلطة، حيث لا يمكن تصور لغة بدون سلطة أو سلطة بدون لغة، فإذا كانت اللغة فعل من أفعال السلطة حسب نيتشه ( 1844-1900) على اعتبار أنها تبقى أداة في يد الأقوياء والمهيمنين للتصنيف بين القيم (الخير/الشر، النبيل/الحقير...)، فإنها مع ج.غسدورف (1912-2000) تعمل على توجيه الإنسان ليندمج في التراتبية الاجتماعية، بحيث تفرض عليه الاستعمال الصحيح للكلمات داخل النظام الذي ينتمي إليه، وفي نفس الوقت تساعده على الخروج من ذاته والارتباط بالمحيط العائلي والانفتاح على العالم، فبسبب اللغة يضطر إلى التخلي عن حياته الداخلية والخاصة لمصلحة الوجود الاجتماعي الخارجي.
إن اللغة كذلك سلطة تشريعية وإلزامية قانونها اللسان، بفعل التكرار والاجترار الذي يطال الكلمات التي يتداولها الأفراد، إذ تحدد نطقنا وألفاظنا وتركيبنا اللغوي، لتصبح أداة للضغط ومعبرة عن الخطاب الإيديولوجي السائد في المجتمع.
هكذا تكون اللغة في نظر رولان بارط تحت تأثير الطقوس والعادات وتحت ضغط الطابوهات وسيلة لتخفي الذات المتكلمة ما تود قوله، أي أن الذات تتكلم في حدود ما يسمح به المجتمع. كما أن اللغة 3تحمل في ذاتها صيغة إلزامية تعمل على تأكيد وإثبات ما يجب أن ينطق به الفرد في إطار علاقته بين الأفراد في حدود ما تسمح به هي، ومن هنا لا تظهر قدرة الفرد الإبداعية إلا من خلال قدرته على الالتزام بقوانين النسق اللغوي وبهذا يصبح الإنسان عبدا للغة أكثر مما هو سيد لها.
وإذا كان دي سوسير يدرس موضوعة اللغة كموضوعة مستقلة، والفصل المطلق بين اللسانيات التي تقتصر على اللغة في باطنها وتلك التي تهتم بما هو خارج عنها، فإن بيير بورديو سيتوجه نحو دراسة اللغة في إطار مجالات استعمالها المتعددة والشروط الاجتماعية لاستخدام الكلمات.
وحسب يورديو تبقى دراسة دي سوسير حبيسة البحث عن قوة الكلمات وسلطتها داخل الكلمات ذاتها، أي حيث لا وجود لتلك القوة ولا مكان لتلك السلطة.
ليست سلطة الكلام إذن إلا السلطة الموكولة لمن فوض إليه أمر التكلم والنطق بلسان جهة معينة، أي أن اللغة تستمد سلطتها من الخارج وترمز إلى سلطة وتمثلها وتظهرها، فأي خطاب مرتبط بسلطة تتحدد بحدود التفويض الذي تسنده المؤسسة للشخص الذي ينتج ذلك الخطاب، فالأسلوب العلائقي اللغوي الذي تتميز به لغة القساوسة أو الأساتذة وجميع المؤسسات راجع بالأساس إلى المقام الذي يحتلونه في إطار سباق وتنافس هؤلاء الذين أسندت إليهم بعض السلطات.
إن فحوى الخطاب وكيفية إلقائه في ذات الوقت يتوقفان على المقام الاجتماعي للمتكلم، ذلك المقام الذي يتحكم في مدى نصيبه من استعمال لغة المؤسسة واستخدام الكلام الرسمي المشروع، ومن ثمة فإن من فوض إليه أن يكون ناطقا باللسان، لا يؤثر عن طريق الكلمات ذاتها، بل يؤثر بالرأسمال الرمزي الذي وفرته الجماعة التي فوضت إليه الكلام ووكلت إليه أمر النطق باسمها وأسندت إليه السلطة.
فالخطاب ينبغي أن يصدر عن الشخص الذي سمح له بأن يلقيه، أي عن هذا الذي عرف واعترف له بأنه أهل لأن ينتج فئة معينة من الخطابات وأنه كفء جدير بذلك (كالقس والأستاذ والشاعر...)، كما ينبغي أن يلقى في مقام مشروع أي أمام الملتقى الشرعي فلا يمكننا مثلا أن نلقي قصيدة سريالية أمام مجلس حكومي.
خلاصة القول اللغة السلطوية ليست إلا الحد الأدنى للسان المشروع الذي لا يستمد سلطته من مجموع تغيرات النطق وكيفيات التلفظ التي تحدد النطق، ولا من تعقيد تراكيبه الصرفية وغناه
اللفظي، أي من خصائص الخطاب ذاته، وإنما من الشروط الاجتماعية للإنتاج وإعادة إنتاج المعرفة بذلك اللسان المشروع والعمل على الاعتراف به داخل الطبقات الاجتماعية.
إن اللغة هي أخطر النعم كما قال هيدجر.
فكيف حاول المهتمون مقارنة مفهوم اللغة؟و ما هي التعاريف التي منحت لهذا المفهوم؟
ارتبطت اللغة في تداولاتها بالكلام، فعندما يراد التعبير، مثلا، عن ممارسة أحد الناس للغة ما يقال إنه يتكلم تلك اللغة. وكأن اللغة اسم لشيء لا يتحقق إلا من خلال فعل الكلام. وهذا الارتباط بين اللغة والكلام، متضمن في الدلالة المعجمية لكلمة لغة نفسها. فهي مشتقة، في اللغة العربية، من اللغا أو اللغو، ويعني الكلام غير المفيد، الفارغ من المعنى، كما تعني الكلام المميز لمجتمع معين، بحيث تتحدد اللغة في لسان العرب لابن منظور بأنها: "أدوات يعبر بها قوم عن أغراضهم" وإذا رجعنا لأي معجم فرنسي سنجد على انها مشتقة من كلمة لاتينية Lingua التي تعني الكلام واللسان. كما تدل كلمة Logos الإغريقية على الكلام والفكر والعقل.
كما يعرفها ابن جني بأنها نظام من الرموز الصوتية التي يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، هذه الرموز التي وضعت للإعلان عن الأشياء المعلومات فإذا استحضر الرمز أو اللفظ عرف به ما سماه 0000000 ليمتاز عن غيره، ويعني بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين[1].
انطلاقا من هذه التعاريف، يتضح على أن الكلام فعل صوتي فردي يتم في الزمان ويتلاشى ضمنه، بينما تبقى اللغة مجموعة من الكلمات والأصوات والقواعد الثابتة، التي من خلالها يتحقق فعل الكلام، وبموجبها يبني المجتمع معرفته ويحقق تواصله، هذا الأخير الذي قد يتحقق بالاستناد إلى وسائل أخرى غير الكلام – تندرج بدورها تحت غطاء اللغة – الحركات، الإيماءات الجسدية، العلامات والرموز.
وبالتالي فاللغة، ظاهرة قد تتخذ صورا صوتية[2] أو صورا كونية[3].
ومن هذا المنطلق تتخذ اللغة طابع الظاهرة المعقدة التي يمكن أن تشكل موضوع دراسات متعددة – الفيزيزلوجيا[4]، السوسيولوجيا[5]، الأنثروبولوجيا[6]، السيكولوجيا[7]، اللسانيات...
وتستمد إشكالية اللغة أصولها من الفلسفة اليونانية القديمة حيث كانت فكرة محاكاة الكلمات للأشياء فكرة قديمة، نجدها عند الحضارات الشرقية، فأدخلها أفلاطون إلى فلسفته الخاصة، حيث اعتقد هذا الفيلسوف أن تقنين اللغة من اختصاص المشرع (الفيلسوف) الذي يعرف كيف يصنع الكلمات لأن الأسماء لابد أن تكون من جنس الأشياء التي تعبر عنها، وذلك حتى تكون مطابقة لها وتستطيع التأثير عليها. فالأطروحة الأفلاطونية (من خلال محاورة كريتل- عدالة الأسماء) بهذا الصورة، تجمع بين تصورين: التصور الفلسفي الذي يؤكد أن اللغة محاكاة للطبيعة، والتصور الفلسفي الكلاسيكي الذي يجعل وضع اللغة مقصورا على بعض المشرعين والحكماء.
وتجدر الإشارة إلى أن البحث في أصل اللغة أصبح متجاوزا، لأن إشكالية اللغة أعمق وأعقد من ذلك.
بالوقوف عند كل ما تقدم، تتضح الإشكالية الفلسفية التي نسعى إلى مقاربتها من خلال هذا الدرس، والتي يمكن تفريعها إلى التساؤلات التالية:
- كيف يمكن حصر الظاهرة اللغوية في الإنسان؟ ما الذي يجعله كائنا مفكرا ورامزا؟
- ما علاقة اللغة بالفكر؟ هل يمكن التفكير بدون كلمات؟
- هل اللغة منظومة قواعد ومبادئ تعمل باستقلال عن مؤسسات المجتمع وقيمه، أم أنها تحمل سلطة محايثة لها؟
1- اللغة خاصية إنسانية:
لقد حاول الفلاسفة الإجابة عن السؤال التالي: كيف يمكن تفسير وجود لغة عند الإنسان؟
يعتبر ديكارت* من المهتمين بالظاهرة اللغوية خصوصا وأنه حاول باستمرار اقامة الفروق بين الإنسان والحيوان. وعلى الرغم من ذلك استطاع أن يقترب من بعض النظريات العلمية، وبالخصوص نظريات التعلم التي بنت أسسها على تجارب بافلوف*. فقد أكدت دراسات ديكارت أنه يمكن اعتبار الأصوات التي تصدر عن الحيوانات مجرد استجابات اتفعالية (رد فعل، استجابة شرطية) لمؤثرات (مثبرات) تسبب له لذة أو ألما، اكتسبتها نتيجة الدعم، فالصوت المشروط لا يمكن اعتباره إلا فعلا منعكسا شرطيا وليس تواصلا. ويرى ديكارت أن السبب في وجود لغة لدى الإنسان وانعدامها عند الحيوان هو العقل (الفكر).
"...مما يستحق الذكر أنه ليس من الناس... حتى دون أن نستثني البذهاء منهم، من لا يقدرون على تأليف كلمات مختلفة، وأن يركبوا منها كلاما به يجعلون أفكارهم مفهومة. وبالعكس، فليس من الحيوان آخر، مهما كان كاملا ومهما نشأ نشأة سعيدة، يستطيع أن يفعل ذلك."[8] فاللغة إذن ليست ظاهرة فسيولوجية، فالحيوان يتوفر على أعضاء الكلام، لكنه يفتقر إلى اللغة، في حين أن تعطل هذه الأعضاء عند الإنسان لا يمنعه من إنتاج لغة. كما يلاحظ ذلك عند الصم والبكم. لذا يصح القول بأن الحيوان لا يملك عقلا مطلقا، ومن ثمة فهو عاجزا عن التواصل.
وقد تعززت نظرية ديكارت هذه بتمثلات الدراسات اللسانية المعاصرة. حيث أكد بنفينست* بالرجوع إلى بعض التجارب التي أجريت على النحل، أن النحلة تستطيع التواصل في إطار شروط فيزيائية معينة، إلا أن هذا التواصل عبارة عن رقصات لا تستدعي الحوار: فلا يمكن لنحلة أن تعيد إنتاج رسالة نحلة أخرى، (غياب الإرسال المجدد). وموضوع الرسالة مرتبة دائما بشروط موضوعية ينحصر في مكان وجود الغذاء، لأن لغة الحيوان لغة نمطية ومرتبطة باستمرار بدوافع غريزية، في حين أن لغة الإنسان تعتمد على الفكر. لذا لا يمكن أن نجد خلافا بين رسالة نحلة وأخرى، إلا فيما يخص متغيرات مرتبطة بالمكان، وأخر لغة النحل لا تقبل التحليل، نظرا لمحدودية مكوناتها، في حين أن اللغة البشرية توصف بأنها شبكة رمزية من التأليفات اللانهائية من الدلائل والمورفيمات والفونيمات.
من هنا تتضح الرؤية الفلسفية لكل من ديكارت وبنفنست، أن اللغة خاصية إنسانية. فكيف حاول كاسرير* مقاربة هذه الإشكالية؟
لم يعد الإنسان عند كاسرير مجرد حيوان ناطق بل أصبح في المحل الأول حيوانا خالقا للرموز، وأصبحت صفته هذه هي الدليل الوحيد على إنسانيته.
فإذا كانت الفلسفة النقدية، (مع كانط) قد عينت أساسا بنقد العقل، فإنه ترتب على ذلك أن أصبح العامل الوحيد الحاسم في تمييز الإنسان في ضوء هذه الفلسفة هو العقل.
ومن بعده ديكارت.
إلا أن كاسرير يرى بأن الجانب العقلي لا يمكن أن ترد إليه كل صور الحضارة الإنسانية، مترتب عن ذلك أن أصبح العقل فرعا واحدا من فروع كثيرة تندرج كلها تحت طابع واحد يميز الإنسان ألا وهو القدرة على الرمز. وعلى هذا الأساس يرى كاسرير أنه بدلا من أن نعرف الإنسان باعتباره حيوانا عاقلا، فإن علينا أن نعرفه باعتباره حيوانا رامزا.
فالإنسان عنده لا يعيش في عالم حضاري، ولما كان العالم الحضاري يتكون من اللغة والأسطورة والفن والدين... وهو ما يمثل العالم الرمزي. فإن دراسة الإنسان تصبح قائمة على أساس دراسة هذه الرموز.
ولم يتوقف كاسيرر عند هذا الحد، بل زاد موقفه تحليلا، فأوضح أن لكل كيان عضوي (إنسان+حيوان) (بالاستناد إلى دراسة العالم يوكسل) جهازان: جهاز الاستقبال، وجهاز التأثير، كما يضيف جهازا آخر يميز الإنسان عن غيره وهو الجهاز الرمزي.
يقول كاسيرر: "تبدأ فلسفة الأشكال الرمزية من فرض معين مضمونه أنه إذا كان هناك تعريف لطبيعة الإنسان أو جوهره. فإن هذا التعريف لا يفهم إلا باعتباره لا وظيفيا ولا ماديا، فنحن لا نستطيع أن نعرفه بإمكانية يحملها في ذاته أو غريزة تؤكدها الملاحظة التجريبية، عن الطابع المميز الأكبر للإنسان، أي علامته الفارقة ليس هو طبيعته الميتافيزيقية وإنما هو عمله، هذا العمل أعنى جهاز الفعاليات الإنسانية هو الذي يحدد دائرة الإنسانية، وتمثل اللغة والأسطورة والدين والفن والعلم قطاعات متنوعة من هذه الدائرة."[9]
من خلال هذا، نسنتنج أن اللغة نشاط رمزي، يستطيع الإنسان بواسطته أن يتمثل الواقع وكذا حاجة على التقيد به، واستحضاره في صورته وشكله الماديين، وهذا ما يتيح لنا أن نتساءل حول طبيعة العلاقة الموجودة بين اللغة والفكر. وبالتالي: هل توجد بين اللغة والفكر علاقة تبعية وتلازم؟ أم هل بينهما علاقة انفصال وقطيعة؟
2 اللغة و الفكر:
إن العلاقة بين اللغة والفكر: الواحدة منهما تقول بانفصال اللغة والفكر، والأخرى تؤكد – على العكس- فكرة الاتصال بينهما. فإذا تأملنا موقف برغسون Bergson، نجده يؤكد ان اللغة كوسيلة تخرج الإنسان من الجهل إلى المعرفة، إلا أنه يعتبرها أداة غير كافية نظرا لطابعها المحدود مقارنة مع الموضوعات اللانهائية، فعلى العقل أن يتدخل باستمرار ليضفي على الكلمات دلائل جديدة من خلال عملية إلحاقها بأشياء لم تكن ضمن اهتماماته قبلا. وهذه الطريقة ينقل العقل الأشياء من المجهول إلى المعلوم، ومن ثمة يرى برغسون أن العقل يستعمل باستمرار الطريقة التي ألفها في تعامله مع المادة الجامدة.
إنه لا يمكن فهم الموقف البرغسوني في طرحه لعلاقة اللغة بالفكر إلا من خلال التمييز بين ثابتين: عمل العقل وعمل الحدس، فالعقل في نظر برغسون – يتعامل – مثلا – مع الكائن الحي على انه ليس كذلك، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يملكها العقل للتأثير على الأشياء. غير أن هذه الطريقة برغماتية وميكانيكية، تلجا إلى قتل الحي وتثبيت المتحرك، والقضاء على الاتصال، أما الحقيقة فهي متجلية – حسب برغسون – في عمل الحدس الذي يدرك "الديمومة". وإذا اعتبرنا اللغة من إبداع العقل، فإنها تصبح وسيلة، وأداة خطيرة يستطيع العقل أن يحق من خلالها عمله النفعي، ومن ثمة تكون اللغة عاجزة عن التعبير عن "الديمومة"، وبالتالي عاجزة عن التعبير وعن الفكر الحدسي المدرك لتلك "الديمومة".
هكذا يتأكد أن الموقف البرغسوني يتلخص في ترجيح كفة انفصال اللغة عن الفكر وعجزها عن التعبير عنه، وتلتقي مع أطروحة برغسون عدة أطروحات أخرى من أبرزها الأطروحة الصوفية، فما قد يفهمه الجمهور من كفر وزندقة وشرك وشطحان المتصوفة (كقول الحلاج مثلا: "ما في الحبة إلا الله" أو قول البسطامي "سبحاني ما أعظم شأني" ، لا يؤكد ذلك في العمق إلا أن التجربة الصوفية تجربة روحية باطنية ووجدانية فردية، تعجز اللغة عن ترجمتها والتعبير عنها بإخلاص.
كما نجد أن عالم النفس الأمريكي واطسون حاول التأكيد من جهته على أن التعبير عن الفكر يحتاج إلى نضج في أعضاء النطق، وأن العادات العضلية المكتسبة داخل اللغة الظاهرة هي المسؤولة عن اللغة المضمرة والباطنية (الفكر) وأنه بواسطة التوليفات العضلية المكتسبة داخل اللغة الظاهرة هي المسؤولة عن اللغة المضمرة والباطنية (الفكر). وأنه بواسطة التوليفات العضلية تستطيع الإفصاح عن جميع الكلمات.
فإذا كان برغسون يؤكد أن هناك انفصال بين اللغة والفكر، نجد أن ميرلوبونتي في مقابل ذلك يؤكد أن هناك ارتباطا بين اللغة والفكر ولا يمكن اعتبارهما في أي حال من الأحوال، موضوعين منفصلين. إن التفكير الصامت الذي يوحي لنا بوجود حياة باطنية هو – في الحقيقة- مونولوج داخلي يتم بين الذات ونفسها، لأن اللغة والفكر يشكلان وجودا علائقيا مرتبطا ومتزامنا. كما ترى الطروحات اللسانية المعاصرة. خاصة منها أطروحة كرستيفا، أن بين اللغة والفكر علاقة تلازم وتبعية. حيث ترى جوليا كرستيفا Kristeva. أن اللغة منظورا إليها من خارج تكتسي طابعا ماديا متنوعا، فيمكنها أن تتمظهر في صورة سلسلة من الأصوات المنطوقة. أو في صورة شبكة من العلامات المكتوبة، أو على شكل لعبة من الإيماءات، وهذه الحقيقة المادية تجسم ما نسميه فكرا، أي أن اللغة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يوجد بها الفكر، بل هي حقيقة وجوده وخروجه إلى الوجود، أو كما تقول جوليا كريستيفا: "إن اللغة هي جسم الفكر".
إن التساؤل الذي يفرض نفسه في هذا الإطار هو: أي الأطروحات يجب الإقرار بها؟ إذا قارنا بين الأطروحات التي بحثت في طبيعة العلاقة الموجودة بين اللغة والفكر، يلاحظ أن الأطروحات التي تؤكد وجود علاقة الانفصال بينهما تتمثل في الطروحات الفلسفية المثالية. في حين أن القول بوجود علاقة التلازم بين اللغة والفكر تتبناها وتدعمها الأطروحات العلمية، فقد بينت – مثلا- الأبحاث العلمية التي أجريت عل ظاهرة الأفازيا Aphaiel أن المرض اللغوي هو في الحقيقة مرض عقلي، كما أكدت الطروحات اللسانية من خلال جوليا كرستيفا أنه لا يمكن الحديث في علاقة اللغة والفكر عن وجودين منفصلين، بل واحد، وفي نفس السياق شبه دي سوسير Desaussure العلاقة بين اللغة والفكر بوجه، الورقة وظهرها حيث قال: "إن الفكر هو وجه الصفحة، بينما الصوت هو ظهر الصفحة، ولا يمكن قطع الوجه دون أن يتم في الوقت نفسه قطع الظهر، وبالمثل لا يمكن في مضمار اللغة، فصل الصوت أو فصل الفكر عن الصوت.
إن إشكالية العلاقة بين الفكر واللغة، تحمل في طياتها إشكاليات أخرى عديدة ومتداخلة، ومن أبرز هذه الإشكاليات، إشكالية الوظائف التواصلية للغة باعتبارها تواضعا اجتماعيا وتأليفا بين عناصر متعددة، فكيف يتحدد التواصل بواسطة النسق اللغوي؟ هل يتحقق التوصل في إطار من الشفافية والوضوح والتأمين أم أن عملية التواصل تدخل عوامل تقصي الشفافية.
إن النظرية التواصلية تعتبر اللغة أداة تواصل وتبليغ، وعملية التواصل تتم في إطار من الوضوح والشفافية بين المتكلمة، أو بتعبير آخر عملية التواصل هي تبليغ وتلاق بين ذوات متكلمة وأخرى متلقية، تتم في إطار من الوضوح والشفافية وفي شروط ذاتية وموضوعية، وقد حدد جاكبسون Jakobson، عوامل التواصل فيما يلي: المرسل: وهو الطرف المبلغ للرسالة سواء كان فردا أو جماعة أو هيئة أو مؤسسة.. المتلقي: (المرسل إليه)، وهو الطرف المستقبل للرسالة، الرسالة: وهي الخطاب الذي يوجهه المرسل إلى المتلقي.. المرجع: (أو السياق) وهو الموضوع الذي تتمحور حوله الرسالة. روابط الاتصال والمقصود بها القنوات المادية والنفسية التي تسهل عملية انتقال الرسالة وأخيرا السنن Le code وهو النظام الرمزي (لغة التواصل) المشترك بين المرسل والمتلقي. وإذا توفرت هذه العوامل، فإن اللغة تؤدي الوظائف التواصلية التالية:
1- الوظيفة الانفعالية: وهي ما تسعى رسالة ما تحقيقه من خلال التعبير عن الشعور الانفعالي للمرسل، سواء كان صادقا أو كاذبا.
2- الوظيفة التأثيرية: وهي الطريقة التي قد يضطر المرسل إلى نهجها من أحل التأثير على المتلقي، وفي هذه الحالة تتخذ الرسالة شكل صيغ النداء والأمر.
3- الوظيفة الاتصالية: وهي الصيغ اللغوية التي قد يلجأ إليها المرسل حتى لا يكون هناك فتور في التواصل، أو تراخ في الحديث.
4- وظيفة وصف اللغة للغة: وهي وظيفة يمكن أن تتجلى في كل دراسة لخطاب من الخطابات أو رسالة من الرسائل، وهذه الحالة تتخذ الرسالة صورا تحليلية، أو نقدية، أو صور شروح وتفسيرا..إلخ.
5- الوظيفة الشعرية: وهي الصور التي يجب أن تتحقق في الرسالة ذاتها على مستوى جمالية التعبير، والاتساق اللغوي، وضبط للقواعد واحترام لها.
إن سرد الوظائف بهذا الشكل، يبين أن الرسالة الواحدة يمكنها أن تقوم بكل هذه الوظائف، لذا قال Kakobson، إن تحديد رسالة ما بالوظيفة المهيمنة لا يجب أن يحجب عنا الوظائف المتبقية.
∙ 3 اللغة والسلطة
تعد اللغة ظاهرة معقدة، مما جعلها تطال ميادين مختلفة ومتعددة كميدان السلطة والفكر والإيديولوجية والمنطق ... إلخ، إذ كان من المعروف أن اللغة أداة سلطة وتسلط، لكن مع الدراسات اللغوية الحديثة تأكد أن للغة ذاتها سلطة على النفوس والعقول وأنها تتضمن رؤية للعالم، وأن تحليل لغة السلطة يتعين أن يمر أولا عبر سلطة اللغة ذاتها، خاصة في مجتمعنا المليء بالكلمات والرموز والعلامات التي تداهم الفرد بواسطة وسائل الإعلام أو وسائل المعرفة المختلفة عبر أجهزة الإيديولوجيا والسلطة ذاتها.
لقد أصبح من المؤكد من خلال تصورات العديد من الفلاسفة أن هناك علاقة وطيدة بين اللغة والسلطة، حيث لا يمكن تصور لغة بدون سلطة أو سلطة بدون لغة، فإذا كانت اللغة فعل من أفعال السلطة حسب نيتشه ( 1844-1900) على اعتبار أنها تبقى أداة في يد الأقوياء والمهيمنين للتصنيف بين القيم (الخير/الشر، النبيل/الحقير...)، فإنها مع ج.غسدورف (1912-2000) تعمل على توجيه الإنسان ليندمج في التراتبية الاجتماعية، بحيث تفرض عليه الاستعمال الصحيح للكلمات داخل النظام الذي ينتمي إليه، وفي نفس الوقت تساعده على الخروج من ذاته والارتباط بالمحيط العائلي والانفتاح على العالم، فبسبب اللغة يضطر إلى التخلي عن حياته الداخلية والخاصة لمصلحة الوجود الاجتماعي الخارجي.
إن اللغة كذلك سلطة تشريعية وإلزامية قانونها اللسان، بفعل التكرار والاجترار الذي يطال الكلمات التي يتداولها الأفراد، إذ تحدد نطقنا وألفاظنا وتركيبنا اللغوي، لتصبح أداة للضغط ومعبرة عن الخطاب الإيديولوجي السائد في المجتمع.
هكذا تكون اللغة في نظر رولان بارط تحت تأثير الطقوس والعادات وتحت ضغط الطابوهات وسيلة لتخفي الذات المتكلمة ما تود قوله، أي أن الذات تتكلم في حدود ما يسمح به المجتمع. كما أن اللغة 3تحمل في ذاتها صيغة إلزامية تعمل على تأكيد وإثبات ما يجب أن ينطق به الفرد في إطار علاقته بين الأفراد في حدود ما تسمح به هي، ومن هنا لا تظهر قدرة الفرد الإبداعية إلا من خلال قدرته على الالتزام بقوانين النسق اللغوي وبهذا يصبح الإنسان عبدا للغة أكثر مما هو سيد لها.
وإذا كان دي سوسير يدرس موضوعة اللغة كموضوعة مستقلة، والفصل المطلق بين اللسانيات التي تقتصر على اللغة في باطنها وتلك التي تهتم بما هو خارج عنها، فإن بيير بورديو سيتوجه نحو دراسة اللغة في إطار مجالات استعمالها المتعددة والشروط الاجتماعية لاستخدام الكلمات.
وحسب يورديو تبقى دراسة دي سوسير حبيسة البحث عن قوة الكلمات وسلطتها داخل الكلمات ذاتها، أي حيث لا وجود لتلك القوة ولا مكان لتلك السلطة.
ليست سلطة الكلام إذن إلا السلطة الموكولة لمن فوض إليه أمر التكلم والنطق بلسان جهة معينة، أي أن اللغة تستمد سلطتها من الخارج وترمز إلى سلطة وتمثلها وتظهرها، فأي خطاب مرتبط بسلطة تتحدد بحدود التفويض الذي تسنده المؤسسة للشخص الذي ينتج ذلك الخطاب، فالأسلوب العلائقي اللغوي الذي تتميز به لغة القساوسة أو الأساتذة وجميع المؤسسات راجع بالأساس إلى المقام الذي يحتلونه في إطار سباق وتنافس هؤلاء الذين أسندت إليهم بعض السلطات.
إن فحوى الخطاب وكيفية إلقائه في ذات الوقت يتوقفان على المقام الاجتماعي للمتكلم، ذلك المقام الذي يتحكم في مدى نصيبه من استعمال لغة المؤسسة واستخدام الكلام الرسمي المشروع، ومن ثمة فإن من فوض إليه أن يكون ناطقا باللسان، لا يؤثر عن طريق الكلمات ذاتها، بل يؤثر بالرأسمال الرمزي الذي وفرته الجماعة التي فوضت إليه الكلام ووكلت إليه أمر النطق باسمها وأسندت إليه السلطة.
فالخطاب ينبغي أن يصدر عن الشخص الذي سمح له بأن يلقيه، أي عن هذا الذي عرف واعترف له بأنه أهل لأن ينتج فئة معينة من الخطابات وأنه كفء جدير بذلك (كالقس والأستاذ والشاعر...)، كما ينبغي أن يلقى في مقام مشروع أي أمام الملتقى الشرعي فلا يمكننا مثلا أن نلقي قصيدة سريالية أمام مجلس حكومي.
خلاصة القول اللغة السلطوية ليست إلا الحد الأدنى للسان المشروع الذي لا يستمد سلطته من مجموع تغيرات النطق وكيفيات التلفظ التي تحدد النطق، ولا من تعقيد تراكيبه الصرفية وغناه
اللفظي، أي من خصائص الخطاب ذاته، وإنما من الشروط الاجتماعية للإنتاج وإعادة إنتاج المعرفة بذلك اللسان المشروع والعمل على الاعتراف به داخل الطبقات الاجتماعية.
إن اللغة هي أخطر النعم كما قال هيدجر.