عرض المذهب ونقد الفكر


تعريف الفلسفة الوجودية:
الوجودية فلسفة من الفلسفات وليست دينًا من الأديان
يقول عنها الدكتور منصور عيد في كتابه: (كلمات من الحضارة): (الوجودية من أحدث المذاهب الفلسفية وأكثرها سيادةً في الفكر المعاصر، والوجودية بمعناها العام: هي إبراز قيمة الوجود الفردي للإنسان، وقد ظهرت الوجودية نتيجة لحالة القلق التي سيطرت على أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، واتسعت مع الحرب العالمية الثانية، وسبب هذا القلق هو الفَناء الشامل الذي حصل نتيجة الحرب) ص 248.

وفي معجم ألفاظ العقيدة (تصنيف عامر عبدالله)، عرَّف الوجودية بأنها: (مذهب فلسفي يقوم على دعوة خادعة، وهي أن يجد الإنسان نفسه، ومعنى ذلك عندهم: أن يتحلل من القيم، وينطلق لتحقيق رغباته وشهواته بلا قيد، ويقولون: إن الوجود مقدَّم على الماهية، وهذا اصطلاح فلسفي معناه: أن الوجود الحقيقي هو وجود الأفراد، أما النوع فهو اسم لا وجود له في الخارج؛ فمثلًا: زيد وخالد وإبراهيم، هؤلاء موجودون حقيقيون، لا شك في وجودهم، ولكن الإنسان أو النوع الإنساني كلمة لا حقيقية لها في الخارج كما يزعمون) ص 439. (عوض، 1435هـ)

أبرز الشخصيات وأسباب النشأة:
ترجع بذور الوجودية إلى الكاتب الدانماركي (سورين كيركجارد)، وتعمق فيها الفيلسوفان الألمانيان (مارتن هايدكر) و(كارل جاسبرز)، ومن ثم الفرنسيون: جان بول سارتر، سيمون دي بوفوار، غابريل مارسيل، البيركامو، وغيرهم، ويمكن القول: إنها ظهرت في أوروبا عقب الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، ابتداءً بألمانيا، ثم فرنسا، ثم انتشرت في بقية الأقطار الأوربية، وبعدها في العالم بوجه عام، ويمكن القول: إنها انتشرت في النصف الأول من القرن العشرين، وبدأ خفوتها في نهايات السبعينيات وبدايات الثمانينيات من القرن العشرين.

الوجودية - كنظرية وتطبيق - ليست حركة جديدة، بل جذورها ضاربة في القِدَم؛ فعندما تحررت أوروبا من سلطة الكنيسة أصبح المفكر لا يخاف من نشر أفكاره؛ فاستغل البعضُ أجواء الحرية لنسف كل الحدود الدينية والتقاليد السارية في المجتمع.

وينقسم رواد الوجودية إلى قسمين:
• الوجودية الدينية (المسيحية).
• الوجودية الملحدة، وهي الأكثر شهرة في العالم.
(حسين، 1435هـ).

الأفكار والمعتقدات الوجودية:
الوجودية: مذهب يدعو الإنسان إلى التخلص من كل موروث عقدي، أو أخلاقي، وممارسة الإنسان لحياته بحرية مطلقة دون أي قيد، وينتشر هذا المذهب في فرنسا بوجه خاص، وبلاد الغرب بوجه عام، ولا شك أن هذا المذهب في نظر الإسلام مذهب إلحادي، مَن اعتنقه مرَق من الإسلام، وكفَر بالله العظيم.

وللوجودية الآن مدرستان: واحدة مؤمنة، والأخرى ملحدة، وهي التي بيدها القيادة، وهي المقصودة بمفهوم الوجودية المتداول على الألسنة؛ فالوجودية إذًا قائمةٌ على الإلحاد.

الأفكار والمعتقدات الوجودية:
الله والأديان عند الوجوديين:
يكفُر الوجوديون بالله ورُسله وكتبه، وبكل الغيبيات، وكل ما جاءت به الأديان، ويعتبرونها عوائقَ أمام الإنسان نحو المستقبل، وقد اتخذوا الإلحاد مبدأً، ووصلوا إلى ما يتبع ذلك من نتائجَ مدمرة، ويرون أن الأديان والنظريات الفلسفية التي سادت خلال القرون الوسطى والحديثة لم تحلَّ مشكلة الإنسان، وتمثل الوجودية اليوم واجهةً من واجهات الصِّهيونية الكثيرة التي تعمل من خلالها، وذلك بما تبثُّه من هدم للقيم والعقائد والأديان.

الشعور باليأس والإحباط:
يعاني الوجوديون من إحساس أليم بالضيق، والقلق، واليأس، والشعور بالسقوط والإحباط؛ لأن الوجودية لا تمنح شيئًا ثابتًا يساعد على التماسك والإيمان، وتعتبر الإنسان قد أُلقي به في هذا العالم وسط مخاطر تؤدي به إلى الفَناء، ورغم كل ما أعطَوْه للإنسان فإن فكرهم يتسم بالانطوائية الاجتماعية والانهزامية في مواجهة المشكلات المتنوعة.

الإنسان عند الوجوديين:
يؤمنون إيمانًا مطلقًا بالوجود الإنساني، ويتخذونه منطلقًا لكل فكرة، ويعتقدون بأن الإنسان أقدم شيء في الوجود، وما قبله كان عدمًا، وأن وجود الإنسان سابقٌ لماهيته، ويقولون: إنهم يعملون لإعادة الاعتبار الكلي للإنسان، ومراعاة تفكيره الشخصي، وحريته، وغرائزه، ومشاعره.

مفهوم الحرية:
يؤمن الوجوديون بحرية الإنسان المطلقة، وأن له أن يثبت وجوده كما يشاء، وبأي وجه يريد، دون أن يقيده شيء، وأنه على الإنسان أن يطرح الماضي وينكر كل القيود؛ دينية كانت أم اجتماعية أم فلسفية أم منطقية! ويقول المؤمنون منهم: إن الدِّين محله الضمير، أمَّا الحياة بما فيها فمقودة لإرادة الشخص المطلَقة.

القيم والأخلاق عند الوجوديين:
لا يؤمن الوجوديون بوجود قِيَم ثابتة توجه سلوك الناس وتضبطه، إنما كل إنسان يفعل ما يريد، وليس لأحد أن يفرض قيَمًا أو أخلاقًا معينة على الآخرين، وقد أدى فكرهم إلى شيوع الفوضى الخُلقية، والإباحية الجنسية، والتحلل والفساد، والوجوديُّ الحقُّ عندهم هو الذي لا يقبل توجيهًا من الخارج، إنما يسيِّر نفسه بنفسه، ويلبي نداء شهواته وغرائزه دون قيود ولا حدود، والوجودية - في مفهومها - تمرُّد على الواقع التاريخي، وحرب على التراث الضخم الذي خلَّفته الإنسانية.

نقد الفلسفة الوجودية:
لقراءة التاريخ عِبَر واستخلاص للسير، ولا ريب أن ما مرت به أوروبا من صراع كبير وتسلُّط الكنيسة، وبعد أن تحررت من السيطرة الفكرية والاجتماعية ساعد ذلك على انتشار الأفكار والمعتقدات والفلسفات، ومنها: الفلسفة الوجودية؛ فهي مبدأ ومزاج وطراز سلوكي، تبلورت كمذهب في أثناء الحرب العاَلمية الثانية، وكان لها تأثيرات واسعة في الأدب الفرنسي، وفي كثير من الأدباء الأوروبيين، وبرز ما يسمى: "الأدب الوجودي".

ربما الأحداث التاريخية تجعل هناك مبررًا لظهور هذا الفكر الفلسفي، الذي يدعو الإنسان إلى التخلص من القيود، وممارسة الإنسان لحياته بحُرية نتيجة للتراكمات والقيود التي خضعوا لها في قرون مضت، أفرزت هذا الفكر، الذي تولد نتيجة حاجة ملحة وصراع داخلي أليم، ولكن مبالغتهم في نبذِ كل موروث عقدي وأخلاقي وقيمي، ودعوتهم للحرية المطلقة دون قيد أو حدود "كي تفتح له المجال أن يكشف العالم على حقيقته، والتخلص من حالة الكآبة والتشاؤم، وشرود الذهن، إلا أن القلق والخوف بدأ يراود المفكرين من جديد في هذا العصر حول مفاهيم الوجودية نفسها؛ لأنها أصبحت عائقًا وخطرًا كبيرًا على مصير الإنسانية "(الفلسفة الوجودية وروادها، 1435هـ).

ومن وجهة نظري، أرى أن ظهور نظرية التطوُّر في القرن التاسع عشر، على الرغم من قلة مؤيديها في ذلك الوقت، إلا أنه يومًا بعد يوم، بدأت الناس تشك في النظريات القديمة وتفاسيرها.

هكذا ازداد الثقل والإجهاد النفسي على الإنسان، فبدأ يشعر أنه ضاع بسبب المعارك الطاحنة بين الفلسفات والثورات السياسية والدينية، فلم يكن هناك أمامه إلا إيجاد أو اتخاذ وضع التكيف لإزالة خطر اختناقه، هكذا ولد الفكر الوجودي كمخرج من حالة اليأس والكآبة والقلق الذي يساور الإنسان في العصر الحديث.

كما أن تكريس العلمانية التي أرست جذورها في ذلك الوقت نتيجة الصراع الأوروبي على الكنيسة زاد من اتساع الحرية الفردية، في حين أن الفلسفة الوجودية أيضًا ظهرت كردة فعل للفلسفة المثالية التي ترسي قواعد المثل والقيم بأنها ثابتة، وخاصة الأفكار التي نادى بها الفيلسوف المثالي (هيجل)، من خلال نظريته: (الديالكتيكية)، التي كان مدارها المواضيع المهمة؛ كمعرفة الله، والقيم الدينية والمسيحية، بينما نجد أن الماركسية رحبت بفكر هيجل، وأرست قواعد الماركسية التي رفضتها الفلسفة الوجودية وعارضتها؛ لأنها لا تعطي الإنسان الحرية المطلقة.

الخلاصة:
أصبحت الأفكار الوجودية، وخاصة الملحدة، مثل (أفيون الشعوب)، بعد أن حلَّت محل الدين في المجتمعات الغربية، بعدما كانت هي تصف القيَم والتعاليم الدينية بأفيون الشعوب، فأصبحت الفلسفة الوجودية سرطانًا ينخر في المجتمعات الغربية من خلال الانحلال الخُلقي الذي أصاب مجتمعهم بسبب فقدان المعيار أو المقياس.

ولكن (اللبيب مع التأريخ يفهم) أن الأفكار الوجودية استطاعت أن تنفُذَ إلى أذهان الناس في الوطن العربي، الذي يرتكز على الدِّين والقيم والمبادئ، وسأعرض بعض الأعمال والمجالات التي دخلت الوجودية فيها، ونفَثت فيها أفكارها:

في الأدب والشِّعر:
ساعد "الأدب الوجودي" الذي انتشر من خلال المسرحيات والروايات والشعر على نشر الأفكار الوجودية، فهنا جزء من قصيدة للشاعر اللبناني: "إيليا أبو ماضي" يسطر الفكر الوجودي، ويرسي قواعده، من خلال قصيدته: (الطلاسم)، التي يقول في مطلعها:
جئت، لا أعلم من أين، ولكنِّي أتيت
ولقد أبصرتُ قدَّامي طريقًا فمشيت
وسأبقى ماشيًا إن شئتُ هذا أم أبيتُ
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري!

في الأعمال الدرامية:
كما بثَّت العلمانية سمومها من خلال وسائل الإعلام المرئي والفضائيات، عبر نشر الأعمال الدرامية التي تبث الكثير من الفلسفات، ومن بينها: الفلسفة الوجودية التي نحن بصدد الحديث عنها من خلال الأعمال الدرامية التركية كمثال، فلقد أُجريت لهذه المسلسلات قراءة تفصيلية اتضح جرمها وخبثها، ولقد قامت على أيدٍ متخصصة في الانحلال والضلال والضياع، وفيها من الشر والبلاء وهدم الأخلاق، ومحاربة الفضائل، ما يُقرر أن هذه المسلسلات فرع عن الوجودية، ذلك التيار الفلسفي الذي يعلي من قيمة الإنسان، ويؤكد على تفرده في تفكيره، وحريته وإرادته واختياره، عقيدتهم على الكفر بالله ورُسله وكتبه وبكل الغيبيات، بل يعتبرون ما جاءت به الأديان السماوية عوائق أمام الإنسان، الذي ينبغي عليه - عندهم - أن يطرح الماضي، وينكر كل القيود، فليس له قيم ثابتة تُوجِّه سلوكه، بل له أن يفعل ما يشاء، وليس لأحدٍ أن يفرض أخلاقًا وقيمًا معينة على الآخرين، وبهذا المعتقد الفاسد شاعت الفوضى الخالصة، والإباحية الجنسية الجارفة، والتحلل العقيم" (الشهري، 1435هـ).

في ألعاب الأطفال الإلكترونية:
دخل الفكر الوجودي الذي يفتش عن ملصقات جمالية يستر بها بناءه الهش، ولونه الباهت، ورائحته الكريهة، إلى ألعاب الأطفال، التي لها تأثير كبير على عقولهم، سواء عن وعي أو بدون وعي، أو إدراك لهذا الفكر الوجودي، كما في ألعاب تلبيس الفتيات.

نقد الفلسفة الوجودية من وجهة نظر الإسلام:
ترجع بذور المذهب الوجودي إلى الفيلسوف الدانماركي (كيركيجارد: 1813م - 1855م)، وقد طوَّر آراءهُ وتعمَّق فيها الفيلسوفانِ الألمانيان (مارتن هيدجر)، الذي وُلد عام 1889م، وكارل ياسبرز المولود عام 1883م، وقد أكد هؤلاء الفلاسفة أن فلسفتهم ليست تجريدية عقلية، بل هي دراسة ظواهر الوجود المتحقق في الموجودات، والفكر الوجودي لدى (كيركيجارد) عميق التدين، ولكن هذا الفكر تحوَّل إلى فكر ملحد إلحادًا صريحًا لدى (سارتر).

وقد انتشرت الوجودية الملحدة في فرنسا بشكل خاص، وكانت مسرحيات (سارتر) وقصصه من أقوى العوامل التي ساعدت على انتشارها، ومهما حاول بعض الوجوديين العرب، وغيرهم، تزيين صورة الوجودية، فإنها ستبقى مذهبًا هدَّامًا محاربًا للأديان ومبادئِها وعقائدها وأخلاقها.

إن الوجودية مذهب فلسفي أدبي ملحد، وهو أشهر المذاهب الأدبية التي استقرت في الآداب الغربية في القرن العشرين، ويرى أن الوجود الإنساني هو الحقيقة اليقينية الوحيدة، فلا يوجد شيء سابق عليه، ولا يوجد شيء لاحقٌ له؛ لذلك فإن هدف الإنسان في هذه الحياة يتمثل في تحقيق الوجود ذاته، ويتم ذلك من خلال ممارسة الحياة بحُرية مطلقة.

وقد أفرز هذا المذهب أمورًا عديدة، منها: القلق واليأس، نتيجة للإلحاد وعدم الإيمان، وهما من ركائز هذا المذهب؛ لذا يجب أن يعيَ الشباب المسلم حقيقة المذهب الوجودي وهو يتعامل مع إفرازاته الفكرية والأدبية؛ (الفلسفة الوجودية، 1430هـ).

ولا شك في أن الإسلام يرفض الوجودية بجميع أشكالها، ويرى فيها تجسيدًا للإلحاد، كما أن قضايا الحرية والمسؤولية والالتزام التي تدعو إليها الوجودية - غيرُ مقيدة بأخلاق أو معتقدات دينية، وهي تنادي بأن الإنسان لا يدري من أين جاء، ولا لماذا يعيش، وهذه جميعها أمور محسومة في الإسلام، وواضحة كل الوضوح في عقل وضمير كلِّ مسلم آمن بالله تعالى ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا ونبيًّا وقدوة وإمامًا؛ (الوجودية أو إنكار الرب، 1435هـ).