فلسفة العصر الوسيط
ينظر
بعض مؤرخي الفلسفة الأوروبية إلى العصر الوسيط على أنه يمثل المدة
الممتدة بين القرن التاسع والرابع عشر أو الخامس عشر، فيما يعتبر آخرون
الفترة الممتدة من القرن الأول إلى القرن التاسع، هي التي تمثل دور التأسيس
لفلسفة العصر الوسيط، لان هناك اتصالاً عضوياً بين الإنتاج الفلسفي في تلك
الحقبة والقرون التالية لها حتى القرن الثالث عشر. وهو ما تدل عليه السمات
المشتركة في الأعمال الفلسفية المصنفة في هذه المدة. في هذا الضوء يمكن أن
نلاحظ فترتين تتداخل إحداهما بالأخرى في هذا العصر، يطلق على الأولى
منهما فترة (آباء الكنيسة) بينما يطلق على الثانية (الفلسفة المدرسية).
وفيما يلي تعريف موجز بكل واحدة منهما :
1 ـ آباء الكنيسة :
كان
التفكير مقتصرا، في هذه الفترة، على آباء الكنيسة، الذين حاولوا أن يدافعوا
عن الدين المسيحي ضد الغارات العنيفة التي شنها الفلاسفة الأفلاطونيون
المحدثون. وقد ظهر في هذه الفترة كلمنت الاسكندري (150 ـ 217 م) الذي اعتنق
المسيحية منذ صباه، وحاول أن يرفع الإيمان المسيحي إلى مستوى المعرفة
اليونانية اعتماداً على أفلاطون وأرسطو والرواقية وفيلون، نظراً لرغبته في
بناء فلسفة مسيحية لها نسقها الداخلي المحكم. وتلميذه اوريجين (185 ـ 253
م) الذي ترهب وأسس مكتبة ومدرسة، ودافع عن المسيحية ضد سلسوس الذي طالب
بفصلها عن اليهودية نظراً للخلاف الجوهري بين الديانتين وقام بنشرة نقدية
للعهد القديم وفسره تفسيراً رمزياً، وكتب عدة مؤلفات حاول التوفيق فيها بين
المسيحية والفلسفة اليونانية خاصة الأفلاطونية .
إن أعظم آباء الكنيسة
على الإطلاق هو القديس أوغسطين(354 ـ 430م)، ذلك انه هو الذي أعطى المسيحية
نسقها الكامل، ولم تزل الفلسفة بعده تستقي من أعماله، فان الفلاسفة الذين
جاءوا من بعده إما أعادوا صياغة فلسفته أو عدلوها بما أضافوا إليها من
تأويلات وعناصر جديدة، وظلت فلسفته تسود الفكرالكنسي، وخاصة عند
الفرنسيسكان، حتى مجيء توما الاكويني، فبدأت وقتئذ بالاضمحلال.
ولد
أوغسطين في (طاغشت) من أعمال نوميديا (الجزائر اليوم)، ودرس في مدرسة هذه
المدينة أولا، ثم انتقل منها إلى مدارس أخرى في قرطاجنة وروما وميلانو،
ارتد عن المسيحية في صباه، وتنقل بين الثقافة اليونانية والثقافة المانوية
والثقافة اللاتينية. اختلف إلى محاضرات الأسقف امبروز (333 ـ 397 م) وحلقات
الأفلاطونيين المحدثين. كتب في اعترافاته سنة 400 م: أن التعاليم
الأفلاطونية مهدت لاعتناقه المسيحية، وان الأفلاطونية فلسفة بها كل المبادئ
المسيحية ولم ير الفارق بين الاثنين إلا بعد اعتناقه للمسيحية بزمن طويل.
جعل موضوع الإيمان والعقل احد المحاور الرئيسة في حياته، فهو الذي وضع مبدأ
(أؤمن كي أعقل) الذي استمر حتى القديس (انسلم) في القرن الحادي عشر. عاش
راهباً كثير التنقل، يكتب ويراسل ويدخل في صراعات مع المانوية وغيرهم.
2 ـ الفلسفة المدرسية :
تبدأ
فترة الفلسفة المدرسية (السكولائية) بالقرن التاسع وتتواصل إلى القرن
الخامس عشر تقريباً، أي حتى عصر النهضة. وإنما تعرف هذه الفلسفة بالمدرسية
لأنها كانت تُعلَّم في المدارس، وعلى هذا فان تسمية مَدْرَسي تطلق على كل
من يُدَرِّس في المدارس آنئذ، أو مَن حصّل جميع المعارف التي كانت تدرس في
تلك المدارس. وهي مدارس كنسية تقام إما داخل الأديرة وهي مدارس رهبان، أو
خارج الأديرة وهي مدارس أسقفية لإعداد رجال الدين غير المترهبين.
تخطت
الفلسفة المدرسية عدة مراحل، وقعت المرحلة الأولى منها ما بين القرن التاسع
حتى القرن الثاني عشر، حيثُ ازدادت فيهذه الحقبة المدارس وانتظم التعليم،
فشهد القرن التاسع نشاطاً واسعاً برز فيه (جون سكوت اريجين)، إلا أن هذا
النشاط انكمش في القرن العاشر بفعل بعض الاضطرابات، ثم استؤنف النشاط في
القرن التالي. وكانت البضاعة العلمية الأساسية للاّهوتيين المدرسيين هي
الآثار التي تركها القديس أوغسطين وبعض الآراء الأفلاطونية .
وكان
القديس الايطالي انسلم (1033 _ 1109م) من أكبر الأسماء التي عرفتها هذه
المرحلة، فقد اشتهر بدليله الانطولوجي على وجود الله، وجمع في مؤلفاته بين
الإيمان بالأناجيل والتصديق بفلسفة أوغسطين، ويقوم منهجه على تعقّل
الإيمان أو كما يقول هو: (اني أؤمن كي أعقل)
تمخضت المرحلة الثانية عن
ظهور أعظم فيلسوف لاهوتي في تاريخ الكنيسة، وهو القديس توما الإكويني (1224
ـ 1274م) مؤسس الأرسطوطالية المسيحية، التي نقض بها المذهب ا لأ وغسطيني،
الذي ظل مهيمناً على الفلسفة الأوروبية عدة قرون . ترك الإكويني ثمانية
وتسعين كتاباً، يصل بعضها إلى ثلاثة آلاف صحيفة .
نشأت حركة عقب وفاته
تناوئ فلسفته وتتهمه، إلا أن فلسفته التي أصبحت تسمى التوماوية تنامى
أنصارها بالتدريج، حتى إن البابا أعلن في سنة 1318م أن التوماوية منحة
إلهية وأن الإكويني قديس. وقد وجد الكاثوليك في التوماوية أسلحة فلسفية
ينازلون بها الفلسفات الحديثة واللاأدرية.
3 ـ الفلسفة الاسمية :
انتهت
الفلسفة المدرسية في مرحلتها الأخيرة في القرن الرابع عشر إلى ما يسمى
بالاسمية، وهي تيار فلسفي اخذ في نقد المجردات وادعى أنها ليست إلا أسماء
أو ألفاظا جوفاء، واهتم بالاعتماد على المشاهدة والتجربة، وقد بلغ النزاع
بين الاسميين والواقعيين ذروته في هذه الفترة، وامتازت هذه المرحلة بظهور
التصوف .
وكان وليم أوف اوكام (1295 _ 1349 م) من ابرز الفلاسفة الذين
بشروا بالاسمية. كان من الفرنسيسكان ولكنه تحرر من فلسفتهم، بل ومن كل
فلسفة مدرسية، وباشر نقد الفلسفة والعلم القديم، ودعا للفصل بينها وبين
الدين، والفصل بين السلطتين الدينية والمدنية .
من هنا اعتبره بعض
الباحثين مؤسس الفكر الحديث، فان (جون لوك) تعرض لملاحقة الكنيسة، ففي سنة
1324 م استدعاه البابا بمدينة افينيون بفرنسا للتحقيق معه في تهم منافية
للدين منسوبة إليه، واستمر التحقيق معه أربع سنوات.
أفضت فلسفة الكنيسة
المدرسية بالعقل الغربي إلى الاسمية التي قادته إلى الحسية وإنكار كل شيء
لا تناله الحواس الخمس، بما في ذلك الله وكل ما وراء الطبيعة .
لقد عمل
آباء الكنيسة على تأويل الفكر الفلسفي في ضوء المعتقدات الكنسية المحرفة،
واقتفى أثرهم أتباع الفلسفة المدرسية، فلم يستسغ العقل آراءهم، ولم تتسق
هذه الآراء مع منطق الفطرة، فضلاً عن أنها لم تروِ ظمأ الوجدان، فتحرر
العقل من تأويلاتها المبهمة وراح يفتش له عن نسق عَقدي آخر.
ينظر
بعض مؤرخي الفلسفة الأوروبية إلى العصر الوسيط على أنه يمثل المدة
الممتدة بين القرن التاسع والرابع عشر أو الخامس عشر، فيما يعتبر آخرون
الفترة الممتدة من القرن الأول إلى القرن التاسع، هي التي تمثل دور التأسيس
لفلسفة العصر الوسيط، لان هناك اتصالاً عضوياً بين الإنتاج الفلسفي في تلك
الحقبة والقرون التالية لها حتى القرن الثالث عشر. وهو ما تدل عليه السمات
المشتركة في الأعمال الفلسفية المصنفة في هذه المدة. في هذا الضوء يمكن أن
نلاحظ فترتين تتداخل إحداهما بالأخرى في هذا العصر، يطلق على الأولى
منهما فترة (آباء الكنيسة) بينما يطلق على الثانية (الفلسفة المدرسية).
وفيما يلي تعريف موجز بكل واحدة منهما :
1 ـ آباء الكنيسة :
كان
التفكير مقتصرا، في هذه الفترة، على آباء الكنيسة، الذين حاولوا أن يدافعوا
عن الدين المسيحي ضد الغارات العنيفة التي شنها الفلاسفة الأفلاطونيون
المحدثون. وقد ظهر في هذه الفترة كلمنت الاسكندري (150 ـ 217 م) الذي اعتنق
المسيحية منذ صباه، وحاول أن يرفع الإيمان المسيحي إلى مستوى المعرفة
اليونانية اعتماداً على أفلاطون وأرسطو والرواقية وفيلون، نظراً لرغبته في
بناء فلسفة مسيحية لها نسقها الداخلي المحكم. وتلميذه اوريجين (185 ـ 253
م) الذي ترهب وأسس مكتبة ومدرسة، ودافع عن المسيحية ضد سلسوس الذي طالب
بفصلها عن اليهودية نظراً للخلاف الجوهري بين الديانتين وقام بنشرة نقدية
للعهد القديم وفسره تفسيراً رمزياً، وكتب عدة مؤلفات حاول التوفيق فيها بين
المسيحية والفلسفة اليونانية خاصة الأفلاطونية .
إن أعظم آباء الكنيسة
على الإطلاق هو القديس أوغسطين(354 ـ 430م)، ذلك انه هو الذي أعطى المسيحية
نسقها الكامل، ولم تزل الفلسفة بعده تستقي من أعماله، فان الفلاسفة الذين
جاءوا من بعده إما أعادوا صياغة فلسفته أو عدلوها بما أضافوا إليها من
تأويلات وعناصر جديدة، وظلت فلسفته تسود الفكرالكنسي، وخاصة عند
الفرنسيسكان، حتى مجيء توما الاكويني، فبدأت وقتئذ بالاضمحلال.
ولد
أوغسطين في (طاغشت) من أعمال نوميديا (الجزائر اليوم)، ودرس في مدرسة هذه
المدينة أولا، ثم انتقل منها إلى مدارس أخرى في قرطاجنة وروما وميلانو،
ارتد عن المسيحية في صباه، وتنقل بين الثقافة اليونانية والثقافة المانوية
والثقافة اللاتينية. اختلف إلى محاضرات الأسقف امبروز (333 ـ 397 م) وحلقات
الأفلاطونيين المحدثين. كتب في اعترافاته سنة 400 م: أن التعاليم
الأفلاطونية مهدت لاعتناقه المسيحية، وان الأفلاطونية فلسفة بها كل المبادئ
المسيحية ولم ير الفارق بين الاثنين إلا بعد اعتناقه للمسيحية بزمن طويل.
جعل موضوع الإيمان والعقل احد المحاور الرئيسة في حياته، فهو الذي وضع مبدأ
(أؤمن كي أعقل) الذي استمر حتى القديس (انسلم) في القرن الحادي عشر. عاش
راهباً كثير التنقل، يكتب ويراسل ويدخل في صراعات مع المانوية وغيرهم.
2 ـ الفلسفة المدرسية :
تبدأ
فترة الفلسفة المدرسية (السكولائية) بالقرن التاسع وتتواصل إلى القرن
الخامس عشر تقريباً، أي حتى عصر النهضة. وإنما تعرف هذه الفلسفة بالمدرسية
لأنها كانت تُعلَّم في المدارس، وعلى هذا فان تسمية مَدْرَسي تطلق على كل
من يُدَرِّس في المدارس آنئذ، أو مَن حصّل جميع المعارف التي كانت تدرس في
تلك المدارس. وهي مدارس كنسية تقام إما داخل الأديرة وهي مدارس رهبان، أو
خارج الأديرة وهي مدارس أسقفية لإعداد رجال الدين غير المترهبين.
تخطت
الفلسفة المدرسية عدة مراحل، وقعت المرحلة الأولى منها ما بين القرن التاسع
حتى القرن الثاني عشر، حيثُ ازدادت فيهذه الحقبة المدارس وانتظم التعليم،
فشهد القرن التاسع نشاطاً واسعاً برز فيه (جون سكوت اريجين)، إلا أن هذا
النشاط انكمش في القرن العاشر بفعل بعض الاضطرابات، ثم استؤنف النشاط في
القرن التالي. وكانت البضاعة العلمية الأساسية للاّهوتيين المدرسيين هي
الآثار التي تركها القديس أوغسطين وبعض الآراء الأفلاطونية .
وكان
القديس الايطالي انسلم (1033 _ 1109م) من أكبر الأسماء التي عرفتها هذه
المرحلة، فقد اشتهر بدليله الانطولوجي على وجود الله، وجمع في مؤلفاته بين
الإيمان بالأناجيل والتصديق بفلسفة أوغسطين، ويقوم منهجه على تعقّل
الإيمان أو كما يقول هو: (اني أؤمن كي أعقل)
تمخضت المرحلة الثانية عن
ظهور أعظم فيلسوف لاهوتي في تاريخ الكنيسة، وهو القديس توما الإكويني (1224
ـ 1274م) مؤسس الأرسطوطالية المسيحية، التي نقض بها المذهب ا لأ وغسطيني،
الذي ظل مهيمناً على الفلسفة الأوروبية عدة قرون . ترك الإكويني ثمانية
وتسعين كتاباً، يصل بعضها إلى ثلاثة آلاف صحيفة .
نشأت حركة عقب وفاته
تناوئ فلسفته وتتهمه، إلا أن فلسفته التي أصبحت تسمى التوماوية تنامى
أنصارها بالتدريج، حتى إن البابا أعلن في سنة 1318م أن التوماوية منحة
إلهية وأن الإكويني قديس. وقد وجد الكاثوليك في التوماوية أسلحة فلسفية
ينازلون بها الفلسفات الحديثة واللاأدرية.
3 ـ الفلسفة الاسمية :
انتهت
الفلسفة المدرسية في مرحلتها الأخيرة في القرن الرابع عشر إلى ما يسمى
بالاسمية، وهي تيار فلسفي اخذ في نقد المجردات وادعى أنها ليست إلا أسماء
أو ألفاظا جوفاء، واهتم بالاعتماد على المشاهدة والتجربة، وقد بلغ النزاع
بين الاسميين والواقعيين ذروته في هذه الفترة، وامتازت هذه المرحلة بظهور
التصوف .
وكان وليم أوف اوكام (1295 _ 1349 م) من ابرز الفلاسفة الذين
بشروا بالاسمية. كان من الفرنسيسكان ولكنه تحرر من فلسفتهم، بل ومن كل
فلسفة مدرسية، وباشر نقد الفلسفة والعلم القديم، ودعا للفصل بينها وبين
الدين، والفصل بين السلطتين الدينية والمدنية .
من هنا اعتبره بعض
الباحثين مؤسس الفكر الحديث، فان (جون لوك) تعرض لملاحقة الكنيسة، ففي سنة
1324 م استدعاه البابا بمدينة افينيون بفرنسا للتحقيق معه في تهم منافية
للدين منسوبة إليه، واستمر التحقيق معه أربع سنوات.
أفضت فلسفة الكنيسة
المدرسية بالعقل الغربي إلى الاسمية التي قادته إلى الحسية وإنكار كل شيء
لا تناله الحواس الخمس، بما في ذلك الله وكل ما وراء الطبيعة .
لقد عمل
آباء الكنيسة على تأويل الفكر الفلسفي في ضوء المعتقدات الكنسية المحرفة،
واقتفى أثرهم أتباع الفلسفة المدرسية، فلم يستسغ العقل آراءهم، ولم تتسق
هذه الآراء مع منطق الفطرة، فضلاً عن أنها لم تروِ ظمأ الوجدان، فتحرر
العقل من تأويلاتها المبهمة وراح يفتش له عن نسق عَقدي آخر.